لا يزال الكثير من أحداث مصر المهمة في فترة الستين عاما الماضية منذ ثورة52, غير مكتملة صورتها, إما لحجب وثائق تلقي ضوءا كاشفا علي هذه الأحداث, أو لأن البعض من المشاركين في صنعها, حين كتبوا مذكراتهم, فقد عمدوا الي عدم البوح بأسرار رأوا ابقاءها في طي الكتمان, أو لأن البعض منهم كان وهو يكتب مذكراته متأثرا, بتقلبات لحقت بعلاقات زملاء الثورة, أو ربما لإضفاء وزن اكبر علي دوره. وحين أصدر السفير الممتاز عبد الرءوف الريدي كتابه رحلة العمر, فقد حمل لنا الكتاب شيئا مختلفا, سببه ان خصائص شخصيته البسيطة الواضحة, غلبت عليه وهو يفكر ويتذكر, وسيطرت علي قلمه وهو يجري بين أصابعه, يروي أحداثا كان متابعا لها, أو قريبا منها, أو لوجوده داخل دائرة صنعها. ولقد عرفت عبد الرءوف الريدي عن قرب من خلال علاقة صداقة وثيقة ربطت بيننا طوال السنوات العشر الماضية, منذ بدء نشاطي التطوعي في المجلس المصري للشئون الخارجية. فهو شخص متسق مع نفسه, ليست هناك فروق بين رأي يقوله معلنا, أو مكتوبا, وبين مواقفه. وحين سطر كتابه فهو قد أنتج بهذا الكتاب توليفة سياسية ثقافية لتجربة حياة, تجمع بين المذكرات في جانب منها, وبين رؤيته ومعايشته للاحداث من خلال دوره الدبلوماسي, مضافا اليها لمسات من مشاعره الانسانية, فضلا عن التحليل الذي يطرحه لما جري. ولهذا لم يطلق علي كتابه مذكرات, بل اختار له اسم رحلة العمر. والأهم ان المؤلف عبد الرءوف الريدي طاف بنا لنري معه ومن خلال عينيه, أحداث رحلة عمره منذ ثلاثينيات القرن الماضي, وهو يرويها لنا من زاوية نظر رجل مهتم بالشأن الوطني, متابع وفاهم ومعايش فكرا ووجدانا, للأحداث. يقول: شهدت فترة التحولات الكبري في مصر أيام عبد الناصر, واتساع شعبيته, وصعود مكانته, ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله. أيام كان يبشر بالحلم والأمل في المستقبل إلي أن انهار الأمل وتبدد مع الأيام علي صخرة نكسة.1967 ولأن السفير الريدي كان قريبا من دوائر صنع القرار في وزارة الخارجية, التي إلتحق بها عام1955 فهو يرصد ما رآه عن قرب لأسباب الهزيمة, ومن أهمها غياب الديمقراطية, وهو ما أدي إلي التخبط في القرار السياسي, نتيجة غموض الهدف, وعدم وضوحه, حتي في أذهان القائمين علي إدارة الأزمة وما الذي تريد مصر أن تحققه تحديدا. كانوا يرتقون لاستدراج مصر الي فخ يهييء الظروف للحرب. يقول السفير الريدي: أبلغت وزير الخارجية بما أعلنته جولدا مائير في الأممالمتحدة, من أن أي تدخل في حرية الملاحة الاسرائيلية في خليج العقبة, سيكون بمثابة إعلان حالة حرب وقلت له إن اسرائيل ستحارب في حالة إغلاق خليج العقبة. وإذا كان غياب الديمقراطية يقف شاهدا علي أهم أسباب النكسة, فقد كانت المؤشرات المثيرة لقلق كاتبنا, التي التقطتها عينه مبكرا هي ما قال عنها: كان اكثر ما يقلقنا بعد ثورة52, غياب الحديث عن الدستور, وكذلك قانون إلغاء الأحزاب السياسية, كمؤشر علي الابتعاد عن الحكم المدني. ثم يقول: بالرغم من الأخطاء الكارثية التي وقع فيها عبد الناصر, فلا يمكن إنكار دوره التاريخي, وستظل حقبته أزهي عصور العرب في التاريخ الحديث. ويأتي حديثه عن حروب اسرائيل, ويلاحظ أن كل حرب كانت تحمل بذور الحرب التالية لها. وهي ملاحظة اكدتها فيما بعد وثائق أمريكية واسرائيلية. وتأتي فترة حكم الرئيس السادات, ويقول إن حرب اكتوبر أعطت الشرعية لحكم السادات, والتفاصيل كثيرة حول هذه الفترة, إلا أنني أتوقف عند بعض المواقف لمؤسسة الخارجية العتيدة. فالمؤلف يصف مبادرة السادات بزيارة القدس بالزلزال. فوزير الخارجية امتنع عن الذهاب لمكتبه معترضا علي قرار الرئيس, وجاءت الأنباء تعلن للعالم وجود معارضة من داخل مؤسسة الخارجية. وصلت لاحقا الي استقالة ثلاثة وزراء للخارجية. ومن المشاهد اللافتة, ما يرويه عن امتناع أعضاء الوفد المشارك في كامب ديفيد, والذين كانت لهم تحفظات علي بعض جوانب الاتفاق, عن حضور الاحتفال في فندق في واشنطن باتفاقية كامب ديفيد, ولاحظ السادات مقاعد الوفد شاغرة مما أغضبه. وكان الممتنعون هم أسامة الباز, ونبيل العربي, وأحمد ماهر, وعبد الرءوف الريدي, وأحمد أبو الغيط, والوزير محمد ابراهيم كامل الذي استقال مع ذلك لم يتعرض أي منهم لأي اجراء تأديبي, أو تعويق لمسيرتهم المهنية, بل وصلوا لأعلي المناصب. وتأتي فترة عمله سفيرا في أمريكا والتي يصفها بأنها أكثر فترات رحلة العمر ثراء. فحين يكون الدبلوماسي مجهزا بخلفية ثرية من المتابعة والفهم للشأن الأمريكي, فإنه يضع يده بسهولة علي مفاتيح صناعة السياسة الخارجية, والطريقة المثلي للتعامل معها. وهو قد استوعب من البداية أن فهم السياسة الخارجية الأمريكية لا يكفي وحده, فالسياسة الداخلية هي الأرضية التي تبني عليها السياسة الخارجية. أحاديثه عن أمريكا تغوص في عمق عمل النظام السياسي, وتشرح وتفسر الكثير من المظاهر التي قد تحير البعض في فهم ما يبدو لها أحيانا من تناقضات في السياسة الأمريكية. وتصل الرحلة الي المحطة الأخيرة والحالية, بعد العودة الي القاهرة, والانخراط في العمل التطوعي مرورا برئاسته لمكتبة مبارك, ووصولا الي إنشاء المجلس المصري للشئون الخارجية, بالمشاركة مع السفير محمد شاكر. والذي صار خلال عشر سنوات, مؤسسة تضم عقولا متنوعة لها استقلالية الفكر والرأي, ولها سمعة دولية وعلاقات في مختلف القارات. وفي الختام يقدم وصاياه التي صاغها في رؤية تلم بالحاضر وتستشرف المستقبل وتحدياته, منبها لضرورة قيام مجلس للأمن القومي, تتوافر له أفضل العقول, وألا يتحول الي مجرد جهاز بيروقراطي.