في مقدمة كتابه: مصر المدنية يندهش الدكتور يونان لبيب رزق لاحظ أن عمر الكتاب عشر سنوات الآن من عمليات طمس الذاكرة المصرية. ومحاولة إعادة مصر إلي ما قبل التاريخ الحديث. ولأن الفكرة أوشكت ان تطول عقول الشباب. وتحاول إعادة الشاب إلي ماقبل صناعة المجتمع المدني. الذي يجب أن يصبح ركيزة للحاضر وأساسا للمستقبل. ولذلك عنون الفصل الأول: دائرة المغالطات. عملية طمس ذاكرة الأمة تشكل جانبا, وربما كان أساسيا ومأسويا, من جوانب الأزمة الراهنة التي يعاني منها المصريون, خاصة الجيل الذي يفترض أنه سوف يمسك بتقاليد أمور هذه الأمة مع مطلع القرن المقبل. ويبدو حجم الأزمة, ومن ثم حجم المسئولية التي تقع علي كاهل الجيل القائم الآن, من أننا نترك لمصر في القرن الحادي والعشرين جيلا يتعامل معه بأدوات وأفكار قرون العصور الوسطي بينما تركنا جيل الأجداد العظام( حسن العطار, رفاعة الطهطاوي, علي مبارك, محمد عبده). وجيل الآباء المتنورين( لطفي السيد, حسين هيكل, طه حسين, عباس العقاد, سلامة موسي). ونحن نملك الحد الأدني من أدوات وأفكار تعاملنا مع الحداثة. إن ثمنا باهظا سوف يتعين علي أبناء هذا الجيل دفعه وربما الأجيال التالية, إذا ما استمر تقاعسنا عن تبصيره, جبنا أو مداهنة. وينصرف هذا التبصير الي جانبين: أولهما: محاولة تصحيح المغالطات التي تفشت خلال مايزيد علي العقد والنصف الماضي. والتي مع عملية ترويجها وصلت الي درجة من المسلمات أو البديهيات بالنسبة لهذا الجيل. ويثير الدهشة أن عملية الطمس بدأت عقب حرب أكتوبر3791 فبدلا من أن يكون النجاح المصري, الذي تم إحرازه في الحرب وهو أول نجاح عسكري عربي في تاريخ الصراع مع اسرائيل بدلا من أن يكون بداية لنهضة شاملة وفرصة للبعث القومي حدث العكس. وهكذا استمر التاريخ المصري الحديث الذي يقدمه سائر الفرقاء, يتلقي اللكمات من الجميع, وهي لكمات أدت إلي تشوهات ظاهرة لهذا التاريخ أفقدت المصريين, أو علي الأقل الجيل الجديد منهم الذي استقي أغلب معارفه التاريخية من هؤلاء الفرقاء إيمانهم بما عرفوه عن تاريخ الوطن المصري, وكان هناك المتربصون بهذا التاريخ والساعون إلي حذف القرنين الأخيرين من ذاكرة المصريين مما أحدث عملية الطمس الواسعة. ويتصل الجانبان.. طمس الذاكرة التاريخية وترويج المغالطات, اتصالا وثيقا. فالمغالطات تفقد الكثير من أسباب استمرارها مع ذاكرة تاريخية واعية, وهذه المغالطات تشكل ركنا اساسيا من أركان المناخ الرديء الذي تعاني منه مصر الآن مما يتطلب بذل محاولة لتحريرها وهي محاولة تستحق العمل والعناء. ومن هذه المغالطات القول بوجود طائفية في مصر في الربع الأخير من القرن العشرين وهو أمر يجافي الحقائق التاريخية, فالطائفية كانت قد اختفت من مصر خلال القرن السابق. فالطائفية بمعناها( السياسي) أخذت في الاندثار بعد بناء الدولة المركزية في مصر في زمن محمدعلي. حيث حدث التحول في وضعية المصري من ابن للطائفة الي رعية للحكومة السنية. والطائفية بمعناها( الاقتصادي) أخذت في الاختفاء تبعا للمعطيات الاقتصادية التي شهدها نفس القرن, والتي بدأت خلال نصفه الأول بإعادة هيكلة الاقتصاد المصري من خلال القضاء علي النظام الإقطاعي علي أيدي محمد علي وبناء ما عرفه برأسمالية الدولة. والطائفية بمعناها( العرقي) أخذت في الاختفاء بدورها ونتيجة للمتغيرين السابقين. والطائفية الدينية تجسدت خلال العصر العثماني في حارة النصاري أو حارة اليهود والتي كانت مكانا يعيش فيه ابناء دين معين مثل سائر الحواري التي يعيش فيها أبناء طائفة مهنية او عرقية. وكان محتوما ان تتفكك هذه الحارات الدينية بنفس الوتيرة التي تفككت بها الحارات الأخري. ولم يعد النصاري او غيرهم يعيشون في حارات خاصة بهم. وكان ماحدث في القاهرة والإسكندرية وسائر المدن المصرية من امتداد عمراني حول مراكزهم القديمة فرصة لينهار الشكل القديم من حارات تجمع الطوائف لتقوم أحياء جديدة تضم الجميع. إذن فالقول بالطائفية أمر لا يستقيم مع كل هذه الحقائق, وهو ما ينطبق علي التوصيف بالفتنة, فإن أي مراقب مهما كان مغرضا لا يستطيع توصيف ما يجري علي ارض المحروسة بأنها صراع بين المسلمين والأقباط المصريين. المغالطة الثانية روجت لها الجماعات الدينية. هي الفكرة العلمانية التي وصلت الي بديهية مفروض أنها قد استقرت ولم تصبح محلا للاختلاف, ناهيك عن المنازعة, مثل فكرة الوطن. إن كل فصائل العمل السياسي في مصر الداعية للدولة الدينية قد قرنت بين العلمانية والكفر وانتهي الأمر بإحداها الي الإفتاء بقتل الكفرة. وقبل التدليل علي حجم المغالطة علي ضوء التاريخ المصري الذي نزل فيه البعض طمسا فإن هناك أمرين جديرين بالتسجيل. الأول إن كثيرين ممن يؤمنون بالفكرة العلمانية قد خضعوا لحملة الإرهاب التي توخت إدانة الفكرة وكفوا عن استخدامها او القول بها وبدا وكأن الكلمة يتوجب حذفها من قواميس اللغة العربية. الأمر الثاني أن كثيرين لم يعودوا يلقون بالا لما كتبه فلاسفة عظام مثل الدكتور زكي نجيب محمود يشرحون فيها الظروف التي نشأ فيها التعبير وينفون عنه الاتهام الذي ألصقه به دعاة الدولة الدينية. لدينا التعريف الموسوعي الذي يقول: العلماني هو العالم الذي يتبني او يعتنق المذهب العلماني في مقابل رجل الدين او الكهنوتي, والعلمانيون يحكمون بوجه عام العقل ويرعون المصلحة العامة. هذا جزء من شهادة قديمة للدكتور يونان لبيب رزق. ورغم قدمها تبدو صالحة كجزء من وصف مصر الآن.