يعد تعريف الإرهاب من أشد التعريفات صعوبة, لأنه مصطلح محمل بحمولات نفسية, وقانونية, وسياسية, وفلسفية, كثيرة ومتنوعة, هذا فضلا عن غياب الاتفاق بين أعضاء الجماعة الدولية علي تعريف محدد له, ولكن يمكننا تعريفه هنا علي نحو بسيط بصفته القيام العمدي والمنظم. من أفراد أو مجموعات, بعمليات عدوانية تستهدف حياة المدنيين, وإثارة الرعب بينهم, عبر أفعال إجرامية ليست موجهة ضد أشخاص بأعينهم, لكنها تستهدف أغراضا سياسية من شأنها ممارسة الضغط علي دول أو حكومات, لتغيير سياساتها الداخلية أو الخارجية. وهذا هو عين ما حدث في كنيسة القديسين, لقد حدثت واقعة إرهاب حقيقي, وقعت هذه المرة خارج الأراضي الأمريكية والأوروبية, وهذا ممكن, بل يمكننا أن نتوقع حدوثه في أي مكان, من خلال قراءتنا لأحداث إرهابية مشابهة في عدد كبير من دول العالم, المشكلة ليست في ما خططت له تنظيمات إرهابية من جرائم, لكنها تكمن في استثمار ما قد تسفر عنه أية اعتداءات علي مسيحيين أو مسلمين لإذكاء الفتن الداخلية التي تعرض أمن مصر القومي للخطر. مازالت هذه الحادثة تثير بين المثقفين العرب والمفكرين المصريين مناقشات خاضعة لآليات مركبة تاريخية واجتماعية وسياسية. وإن اتفقت جميعا علي أن تجاهل ما حدث, أو غض الطرف عن العوامل الثقافية التي قد تدعم استثمار مثل هذه الحادثة الإرهابية في مصر, هو أمر بالغ الخطورة علي أمننا في أعز ما نملك, وهو وحدتنا الوطنية. إن القبض علي الجناة, ليست هي الغاية فحسب, لأن ما حدث, وذلك من مجرد قراءة بسيطة لطريقة التخطيط, ونوع الاعتداء, وربما سهولة تنفيذه أيضا, يؤكد دون شك أن حادثة الإرهاب كان من ورائها قصد يتغيا النيل من وحدتنا, أما ما يثير قلقنا فليست الحادثة الراهنة في ذاتها, أو ما شابهها من أحداث, ولكن ما ينذر به هذا السلوك الإرهابي من قصدية وتخطيط في المستقبل, وهو القادر وحده علي كشف مدي استيعابنا لما حدث. فنحن لا نعرف إلي الآن كيف نصف, ولا كيف ندرك, رغم وعينا بالحدث؟ كيف نجاوز الإشارة البسيطة إليه؟ وذلك من أجل أن ننتقل إلي شيء آخر هو إدراك شروط إنتاجه, كيف نضع أيدينا بوضوح علي الظروف التي تيسر استثماره في مصر؟ وهي إجابات يصعب الحصول عليها دون مجاوزة مشاعر الحزن والألم الصادقين, إلي طرح الأسئلة الأساسية من خلال مشاركة وطنية وثقافية واسعة حول ماهية الحدث؟ وكيف فرض علينا؟ ولماذا نحن؟ وما سبل مقاومته؟ كي نفرق بين الحقيقة العارية, وانطباعنا عنها, بين وجهها الأمني, وتأويلها الثقافي, وذلك بصرف النظر عن التوجهات الأجنبية التي حاولت استغلال مثل هذه الهجمات لتحقيق أهدافها, وهو سلوك متوقع منهم علي الدوام.. ولنذكر معا مجموعة من الحقائق: أهمها أن هذا الحادث الكريه منفصل عما يسميه عدد من المثقفين الفتنة الطائفية في الداخل, التي تظهر كسيحة واهنة من وقت إلي آخر, فهو ليس تعبيرا عنها, بل إنه يتغيا استثارتها, وهذا مكمن خطورته, فما علاقة مسلم مصري عاش مع أخيه المسيحي مئات السنين في محبة وتكافل وسلام تحت راية واحدة, ومصير مشترك, بعمل إرهابي مثل الذي حدث, الإرهاب جريمة لا عقيدة لها, خطط لها من البداية من يظنون أن في مصر مناخا صالحا لاستثمارها, لكن ما حدث بعد ذلك قد أثبت نضوج وعي, ووحدة أمة, فلم تثر هذه الحادثة فتنة, بقدر ماقاومتها. وفي جميع الأحوال, هناك انطباعان أساسيان لهذا التفجير الذي جاء مفاجئا, الانطباع الأول تمثل في حجم الألم والحزن المصحوبين بالإدانة الكاملة من جماع أبناء هذا الوطن لما حدث, وقد شهدنا جميعا تلك الاستجابة العفوية الأولي التي تجلت في وقوف جماع المصريين بمختلف مشاربهم واتجهاتهم السياسية والعقدية كافة; مسلمين ومسيحيين يدا واحدة, أما الانطباع الثاني فارتبط بدوائر التأويل التي أطلقها الإعلام, في حدود المتاح من معلومات, وبين الاثنين مسافات مطوقة بالخوف, والشعور بالمسئولية, والبحث عن إجابات.. إلي الآن لم يظهر ما يؤكد أن من وراء هذا العمل الإرهابي تنظيم القاعدة, الذي لم يعرف عنه الامتناع عن التصريح عن عملياته, إلا إذا كان قصده من ذلك أن يتركها عرضة لتأويلات مفتوحة قد تشدها إلي اتهامات تمس الداخل, كي يبدو الحدث الإرهابي عاريا من مرتكبيه, وكأنه لا علاقة للقاعدة به, لإذكاء روح الفتنة, وإن كان فكر القاعدة- في الأحوال كلها- أخطر كثيرا من تنظيمها, فالثاني يمكن محاصرته والقضاء عليه, أما الفكر, فلن تنجح جميع أجهزة الأمن ومكافحة الإرهاب في العالم كله, من أن توقفه, وهذا ما يرجعنا ثانية إلي ما أطلق عليه أمن مصر الثقافي, وإلي أهمية طرح مفهوم المواطنة للمصري في أرضه علي أوسع نطاق, بصرف النظر عن دينه, وجنسه, وعرقه, ولونه, وتعليمه, ومهنته. قد يتفق معي عدد من المفكرين علي أن الإرهاب لا عقيدة له, هو عقيدة في ذاته, هذا هو أهم عنوان أضعه لما حدث, أما الفكر الذي نفذه, فضلا عن التوقيت, وطريقة التنظيم, ومكانه, فلها دلالات لا يمكن غض الطرف عن خطورتها علي أمن مصر القومي, وأري أنه من المقاصد المتوقعة لهذا التفجير الإرهابي معرفة إلي أي حد يمكن أن يؤثر عمل إرهابي كهذا علي تماسك الوحدة الوطنية التي إن لم تظهر علي هذا القدر من القوة, لخطط المنفذون لعشرات التفجيرات الأخري, لاستثمارها, وهذا ما يرجعنا ثانية إلي موضوع أمننا الثقافي.. إن الثقافة في نظري هي الضلع الناقص دائما في فهم المسئول عن مثل هذه الجريمة الشنعاء, بل إن أية مساءلة لن تكون ذات جدوي إذا نظرنا إليها من وجهة نظر أمنية فحسب, من أجل هذا يجب مساءلة السياسات الثقافية والإعلامية الحالية والآتية في آن. ذلك بعد أن ازداد تأثير الشاشة المرئية, ووسائل الإعلام الحديثة, وارتفعت مكانة الثقافة السلعية, بوصفها أدوات تسهم في خلق الهوية. إن قضية الفتنة قضية ثقافية في مقامها الأول, يتحمل جزءا من مسئوليتها السياسات الثقافية والإعلامية والتربوية القائمة بعامة, والقادمة بخاصة, أقول ذلك لأن من نفذ هذه الجريمة الخرقاء ليست الأيدي الملطخة بدماء الأبرياء, بل نفذتها عقول أفسدها ضيق الأفق, وغياب الانتماء, عقول لطختها الجهالة علي المستوي الثقافي, هذا الجانب الذي يغيب دائما عن التناول في مثل هذه الأحداث, وهذا ما يهمني طرحه هنا, وهو جانب يثير السؤال عن أثر السياسات الثقافية والإعلامية القائمة, علي سبيل المثال, علي مجمل الوعي الاجتماعي الحاضن لهذه الأحداث, والمهيأ لتبنيها.. هنا, يجب علينا أن ننادي بضرورة الاهتمام بالسياسات الثقافية علي نحو يجاوز مفهومها الضيق الحالي بصفتها تلك السياسات المرتبطة ببناء متاحف, أو بإقامة مهرجانات, وكرنفالات, أو تلك المتعلقة بمسئولية وزارة واحدة أو وزير واحد إلي فهم أوسع يري الثقافة بصفتها قضية مجتمع بكامله, أتكلم هنا عن غياب الأثر الاجتماعي للإنفاق الثقافي, وللكتابة بقية.. المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى