كانت وزارة الخارجية الأمريكية قد ابتكرت في عام1971, طريقة مثيرة, ضمن عملية رسم السياسة الخارجية, حين أنشأت نظاما رقابيا خاصا, أسمته قناة المعارضين أو المخالفينDissentChannel يسمح لمجموعة من المسئولين بالوزارة بتحدي سياسة الوزارة وانتقادها, وإظهار ما بها من قصور. وكانت هذه المجموعة تمارس دورها بشكل غير معلن وبعيدا عن عيون الصحافة, وتقدم تقاريرها مباشرة إلي إدارة التخطيط السياسي بالوزارة, التي ترد عليهم وتناقشهم ولا يمكن الزعم بأن تأثير جماعة المعارضين كان أساسيا, لكنه علي الأقل كان بمثابة تنبيه لعدم التسرع في اتخاذ القرار, أو إعادة النظر فيه. تذكرت هذا الأسلوب وأنا أتابع إعلان وزارة الخارجية الأمريكية, رفضها عرض مشروع قرار عربي ضد الاستيطان الإسرائيلي, علي مجلس الأمن. وهذا النظام كان يمكن أن يكون مؤثرا علي سياسة أمريكا في الشرق الأوسط, لولا أن هناك عوامل أضعفت من تأثيره, أهمها أن صانع قرار السياسة الخارجية, تكون لديه حرية أكبر في الالتزام بما يمثل المصالح الوطنية لبلاده, لو لم يكن لديه قلق من تأثير قراره علي فرص إعادة انتخابه, وهي ما لا تتوافر في القرارات التي تخص إسرائيل, وفي غير هذه الحالة تكون لديه فرصة الاختيار بين بديلين أو أكثر, وليس الخضوع للضغوط, التي تدفعه لاتخاذ قرار متحيز. ثم كان مما أضعف هذا النظام بعد ذلك, ما جري من التخلص من طاقم الخارجية من النخبة الذين عرفوا باسم(Arabists) أو العروبيون, وهم الخبراء الذين يفهمون المنطقة ومصالح بلادهم فيها, لتحل محلهم شخصيات تصادف أن معظمهم يهود أمثال دنيس روس وآخرين. هنا, أتذكر حوارا مع السفير الأمريكي العتيد ريتشارد باركر في بيته بضاحية جورج تاون القريبة من واشنطن, وقد عمل دبلوماسيا في مصر, وسفيرا في دول عربية أخري, يومها شرح لي جانبا مهما من جوانب صناعة قرار السياسة الخارجية, فقال: لنتيجة النهائية, وعما إذا كان قد عاد بفائدة أم أنه سبب أضرارا لنا, وهو ما يمكن أن نطبقه علي مشكلة احتلال إسرائيل الضفة وغزة. .. إن آراء كثيرة تردد القول بأن أمريكا دولة مؤسسات, وأن القرار تجاه العرب وإسرائيل ثابت لا يتغير بتغير الرؤساء, وهذا صحيح جزئيا, لكنه ليس صحيحا في كل الحالات, بالطبع هناك استراتيجية عليا تحكم عمل السياسة الخارجية, لكن هذه السياسة بدورها خاضعة لحسابات اللحظة الزمنية, وهي قد تقود الرئيس أحيانا, إلي اتجاه يراعي المصالح الوطنية لبلاده, حتي ولو خرج علي قاعدة التحيز التقليدي لإسرائيل, وهو ما شهدناه في عهود الرؤساء: أيزنهاور(1957), وكنيدي(1962), وفورد(1975), وبوش الأب(1991). وحين يتبني الرئيس وبالتالي وزير خارجيته, توجها ما في السياسة الخارجية, فيصعب علي بيروقراطية إدارته, السير في اتجاه مخالف, إلا في حالة ضعف معرفة الرئيس بالشئون الخارجية, فإن مساعديه أحيانا ما يقدمون له رؤية مقصورة, لا تتفق مع المصلحة الوطنية, أو يحجبون عنه معلومات, نتيجة ارتباطهم بقوي لها مصالحها الخاصة. ولو نظرنا في هذا الإطار إلي إعلان وزارة الخارجية الأمريكية منذ أيام, أنها سوف تعارض أي قرار يطرح علي مجلس الأمن, يدعو إسرائيل إلي إنهاء الاستيطان, فإننا ينبغي في الوقت نفسه أن نلاحظ العناصر الحاكمة التالية: (1) أنه إذا كان التحيز لإسرائيل يعد ثقافة سياسية نافذة في شرايين مؤسسات الدولة, فإن سلوكيات منع أي قرار يعارض سياسات إسرائيل, علي مجلس الأمن, هو أكثر من ذلك يبدو وكأنه موقف غريزي وتلقائي, يتخذ حتي ولو كان المشروع العربي المطروح يتفق مع ما تعلنه الولاياتالمتحدة نفسها علي لسان كبار مسئوليها. (2) أن النظام السياسي الأمريكي تحكمه قاعدة الضغوط, فهي جزء من أركان وقواعد عمل النظام الذي يسمح رسميا ودستوريا, لما تسمي بقوي الضغط, بأن تلعب دورا حاسما في محاولة دفع قرار السياسة الخارجية في الاتجاه الذي يرضيها, حتي ولو كان الضغط لحساب دولة أجنبية, كما هو الحال مع إسرائيل. .. والرئيس في هذه الحالة يتصرف حسب قوة الضغط الواقعة عليه, من هنا أو هناك, وهو يوازن بينها, فإذا كانت قوة الضغط بكاملها آتية من القوي اليهودية وأنصارها, بينما هناك غياب كامل لأي ضغوط عربية, تستخدم ما لديهم من إمكانات, فقد كان يمكن للإدارة الأمريكية حينئذ أن تضعها في حسابها, لو أنها وجدت أنها تؤثر علي مصالحها في هذه الدول. (3) أن الساحة الأمريكية مفتوحة لمن يريد أن يدخل ويمارس دورا في شرح مشكلته وعدالة قضيته, من وجهة نظره. وهناك مراكز إعلام يهودية تعمل يوما بيوم, في إعداد أوراق ترسل بالبريد الإلكتروني, للبيت الأبيض, والوزارات المختصة, وأعضاء الكونجرس, في أي لحظة تجري فيها مناقشة حول اتخاذ قرار سياسي وشيك يتعلق بإسرائيل والعرب, ولا يوجد موقع عربي واحد مماثل, بالإضافة إلي مراكز البحوثThinkTanks التي اعتبرها مصانع السياسة الخارجية هناك, وبينها عدد كبير, مبدؤه الأول الدفاع عن إسرائيل مهما فعلت. (4) بدأ عهد أوباما باندفاع قوي يربط بين حل القضية الفلسطينية, ووقف الاستيطان, وبين الأمن القومي للولايات المتحدة, وطبقا للمبدأ المحوري لسياسة أوباما الخارجية, مبدأ الشريك, الذي قال عنه بنفسه: أريد شركاء يتعاونون معي في حل المشكلة, فإن عدم استجابة العرب لهذه الدعوة لابد أن يترك تأثيره السلبي علي مواقفه, والشريك, حسب مفهومه, هو من يملك رؤية واضحة لدوره, واستراتيجية كاملة ومؤثرة وضاغطة, تعزز مصالحه القومية, لكن العرب لم يتقدموا للعب دور الشريك, واكتفوا بأن يترقبوا ما سيفعله أوباما. .. إن السياسة ليست سوي لعبة مصالح, وتوازن قوي, وحركة نشطة مبنية علي استراتيجية علمية, وفعل مؤثر, ومغير لأفعال الآخرين.. وليس الجلوس في غرفة الانتظار.