في هذا البيت كأنك تسمع صوت نابليون وهو يردد: في مصر لو حكمت لن أضيع قطرة ماء من النيل أبدا في البحر.. وسوف اقيم اكبر مزارع ومصانع اطلق منها امبراطورية هائلة.. كان يحب بيت السناري ويري فيه مع مائتي عالم فرنسي يجتمعون ليل نهار.. ان من يحكم مصر بإمكانه ان يغير العالم.. وتتعجب لماذا اختاروا هذا المكان في حارة مونج ليكون مقرا لعلماء الحملة الفرنسية.. ولكنك عندما تدخله تخطفك جماليات الفن المعماري, وتتمني لو كنت ابراهيم كتخدا السناري.. تعيش في بيت جميل تطل من وراء مشربياته علي القاهرة المملوكية.. وتستمتع بملقف الهواء الذي يبدد حرارة الصيف لك.. وتداعب رذاذ النوافير الذي يحاصرك من كل مكان.. هل هو الحنين الي الماضي ام هو الهروب من عصر السرعة والسربعة العشوائية؟؟.. واضح ان الاجداد كانوا اكثر استمتاعا وحصافة منا في بناء البيوت المناسبة لاجوائنا ومزاجنا بل وعاداتنا.. ومن هنا كان المكان مناسبا للفرنسيين للانكباب علي تأليف كتاب وصف مصر؟.. لماذا.. لأنهم كانوا مهووسين اصلا بالحضارة المصرية من زمن الفراعنة العباقرة.. زمن العلوم والهندسة والاهرامات المدهشة.. وهو نفس شعور الملك فريدريك ملك ألمانيا عندما كان في صقلية يراقب عن كثب انجازات علماء العرب والمسلمين, ويندهش ويحلم بنقلها الي اوروبا.. كان ذلك قبل قدوم نابليون الي الديار المصرية بستمائة سنة.. تصوروا الي اي مدي كنا متقدمين في الفلك وفي علوم البصريات وفي صناعة آلات الحرب المتقدمة. وفي الكثير من الاختراعات مثل الاسطرلاب وخلافه.. لماذا هذا الكلام مهم جدا الآن.. لأن الحكماء يقولون لنا.. إذا أقر الغرب بعبقرية العلماء العرب وأنهم افادوا البشرية وساهموا في تقدم العالم وفي النقلة الحضارية الجبارة التي احدثتها اوروبا.. اذا حدث ذلك فسوف تنحل عقدة الصراع القائم الآن بين الثقافتين.. العربية والغربية.. وهذا شيء في غاية الاهمية في تلك اللحظة التاريخية الراهنة.. وقد شاهدت مؤخرا فيلما أنتجته ألمانيا عن مساهمات علماء العرب في الحضارة الانسانية يحكي لك عن عبقرية الاجداد, ويجعلك تتحسر علي تقاعس الاحفاد.. وكنت أتمني ان مبادرة انتاج مثل هذه الافلام تأتي من التليفزيونات العربية بدلا من انفاق المليارات علي صناعة الأوهام وعلي برامج تزييف الوعي.. نحن في اشد الحاجة الآن الي توفيق الحكيم كي يخبرنا عن سر عودة الروح الي بلادنا مرة أخري.. ونحن في اشد الحاجة الي اعادة قراءة التاريخ مرة اخري, سواء في بيت السناري, او في غيره من البيوت المصرية التي شهدت تجليات علمائنا الافذاذ.. وتلك البيوت تراها في كل مكان في حواري وأزقة القاهرة.. ففي شارع النحاسين ستجد ابن النفيس يشكو لك أمام مستشفاه التي تعالج النفوس قبل الأجساد, كيف كنا علماء واسطوات نبدع ونتألق حتي في قلب الأحياء الشعبية.. وكنا نعلم ان لغة العلوم والعقل تطرد الكراهية من حياتنا وتثير إعجاب العالمين بنا... ورحم الله افلاطون الذي وقف مشدوها يقول.. نحن اليونان اطفال امام تلك الحضارة المصرية.. لاتعليق.