وسط ستة مليارات إنسان, وملايين الجبال والبحور, وكل الكواكب والنجوم, لدي فقط, كل ما لدي, عصفورة واحدة صغيرة, أقول لها قبل نومي: تصبحين علي خير ياكناري الصغيرة. . تقف علي راحة يدي لا أضغط عليها بقوة, وخشية أن تبعد عني لا أبعد أصابعي عنها. أكلمها بصوتي الأجش فتقول: ياعندليب, أرقد تحت الأشجار فتقول: سبعي يرتاح, أستحم في النهر فتطير فوقي تضرب الهواء بجناحيها: تمساحي في النهر. هذه العصفورة هي كل مالدي. أتحمل نزقها, وحماقاتها, وأصبر علي تلفتها الكثير برأسها, وأتفهم نظرة عينيها التي تبدو مطمئنة راسخة ثم تحترق في لحظة بعذاب خوف مفاجئ. حطت علي كتفي مطلع اليوم, رفعت رأسها نحو السماء بكبرياء, قالت بنبرة لا تقبل النقاش: الجو اليوم صحو. وأضافت آمرة ولم تنظر إلي: دعنا نطير قليلا, أحاول أنا الذي اعتدت تقلباتها أن أوضح لها: أنا بشري ياكناري, وزني ثقيل, ولا أطير. تمسح الأفق الذي ستحلق فيه بنظرتها. وترد برأس مرفوع: أوقف سخافاتك هذه. ينخفض صوتي: افهميني, أنا لا أقدر. مرت علي السماء بنظرة أخيرة متفحصة, ولا أظنها حتي سمعتني, وقالت: هيا هيا!. قبضت بمخالبها الدقيقة علي ياقة قميصي لترفعني, اغتاظت من ثقلي وضخامتي, ومع ذلك ارتفعت بي للأعالي, شهقت من الخوف وأنا معلق بشعرة في الهواء, قامت بدورة كاملة في السماء, زقزقت, دخلت سحابة بيضاء وخرجت منها لأخري وعلي ريشها وجبيني ندي. تعبت ففردت جناحيها وانزلقت من السماء للأرض ببطء, حطت حيث أقف وظلي خلفي نفضت الندي عن جناحيها وأطلقت صوتها الرنان نحوي: ألم أقل لك إن بوسعك أن تط,ير؟. تطمئن إلي وقفتها علي الأرض فتستعيد نبرتها الآمرة: سنطير كل يوم مادمت قد أحببت ذلك. ربما غدا. وقفت علي رأسي ونكشت شعري متطلعة حولها. ثم وكأنما اتخذت قرارا حكيما بعد تفكير قالت بثقة: الآن سر بنا. تميل برأسها علي جنب وتتذكر: إلي اليمين. أمشي بها. أدوس علي الأعشاب وأجتاز الانهار وهي سارحة بعظمة في ذكرياتها وأحلامها وفجأة صاحت: انحرف يسارا الآن. تصرخ دون سبب: قلت لك يسارا!. مضيت بها بهدوء بين أوراق الأشجار العالية. قابلتنا بحيرة صغيرة ثم لاح جبل مرتفع فرفرفت كأنها كانت تبحث عن الجبل من زمن وصاحت: الجبل! ألم أقل لك؟ غمغمت: لكنك ياكناري لم تنطقي بحرف عن أي جبل؟!. دارت أمام وجهي حانقة تضربني بمنقارها: بل قلت لك يسارا لأن هناك جبلا!. عادت تنقل قدميها فوق كتفي وصاحت: الآن اصعد الجبل!. نصعد. عند القمة وقفت أستريح, وملأت هي صدرها الصغير جدا بالهواء النقي البارد. وقالت: يكفي هذا. تعبنا. وهبطت بعينيها إلي الغابات عند سفح الجبل. وهتفت بعظمة: ألق بنفسك إلي تحت. هيا. أريد دليلا أنك تحترمني قلت لها: سنموت ياكناري. ستتحطم ضلوعي علي الصخور ولا يبقي مني شيء. دارت حولي باهتياج وعصبية: أنت جبان رعديد. لن نموت, وحتي إذا متنا سيبقي علي الأرض حطام الحب وينمو من جديد. تضربني بجناحيها علي ظهري, تدفعني بمنقارها إلي حافة الجبل وتصيح: يا جبان. انظر إلي الفراغ الهائل الذي يفصلني عن الأرض, وألقي بنفسي من أعلي الجبل وهي خلفي. ما أن يحيط بي الهواء حتي أسمع صرخة مذعورة نحيفة: ياماما. ألتقطها بكفي وأواصل الهبوط إلي السفح. ولا أموت, تملصت من كفي ووقفت علي الأرض, نفضت الفزع عن ريش جناحيها واستردت كبرياءها ثم قالت بابتسامة صغيرة: ألم أقل لك؟ لن تموت. أنا أعلم. قالت ذلك وأنا أنصت لدقات قلبها المتسارعة وهي تهدأ. حل الغروب حولنا. وسرقني النوم, بسطت لها كتفي, فسألتني وهي تعلم الجواب: ستنام؟. قلت: نعم.. تصبحين علي خير. تنام هي الأخري واقفة ترتجف. لكنها كأي كناريا لاتنام طويلا, تستيقظ بعد قليل, وتضم رأسي الضخم إلي صدرها, وتغني لي: نم ياصغيري. لا تخف. لا شيء ولا أحد في الغابة يجرؤ علي تهديدك. إنها الآن تحرسني وتحميني. أتظاهر بالنعاس.. ويدخل الليل العميق وهي واقفة بداخله كالنور. أختلس نظرة عليها فتنهرني بكبرياء: نم. لا تخف. ويندي كل شئ في داخلي بالحنان مثل بستان في الفجر حين أفكر أنه ليس لدي هذه العصفورة سواي وحدي.