(1) كان فيلما تسجيليا عن رجل قالوا إنه أحد أهم خزافي العالم نظرا لأعماله اليدوية التي تجلت فيها مهارته البالغة وهم أضافوا أنه تمكن من الوصل في كل قطعة صنعها بين ماضيها وحاضرها. أي أنه صنع لها تاريخا, وتمكن من إعادة تفسير روح الطين أو الصلصال الذي يعمل عليه, وهو كان آسيويا ولا أذكر أسمه الآن. كنت أراه أمامي إذن وهو يمشي في الغابة والكاميرا ترافقه علي حافة نبع ماء يجري خفيفا تحده الأشجار العالية, وكان يحمل في يسراه دلوا رخوا وفي يمناه جاروفا صغيرا. وهو بين آن وآخر كان ينحني ويغرس كف الجاروف في طين جرف هذا النبع ليختبره, وهو طين فاتح اللون وله كثافة الشيكولاته, كان يفعل ذلك ثم يعتدل ويواصل سيره علي مهل, ويختبر. في إحدي المرات تمهل حتي أخذ كفايته واستدار, وهنا انتقل المشهد الي مشغله الذي تباعدت فيه العديد من التصميمات الخزفية الناعمة والمدهشة مثل الأشكال التي يطرحها علي شواطئ البحر. وكان يجلس وهو يرتدي الشورت والقميص الملطخ حيث لا تري فيه شئيا نظيفا من أثر الطين الجاف, وهناك كانت براءة جائزته التي في ملتقي للمصممين العالميين باعتباره الأفضل. وكان يتحدث بصوت خفيف وعلي وجهه ابتسامة, ومن تحاوره ولا تظهر في الكادر. قال إنه لم يكن يختبر الطين بالجاروف بحثا عن الخامة الأنقي, بل إنه كان يبحث عن تلك التي خالطها شئ ضئيل من الرمل, لأن كل جسم في هذا العالم, إذا ما داخله شئ غريب, فإنه يمتلئ بالحيوية دفاعا عن نفسه, بما في ذلك جسم الإنسان. إذا أصابه الميكروب فإنه يستنفر كل قواه من أجل مقاومته والعودة سليما معافي وهو عندما يصنع عمله ويعرضه لنيران الفرن الهائلة سيقوم هذا الصراع بين خامة الطين وما خالطها من رمال قليلة, الطين ينشط مقاوما, بينما الرمال تقاوم في اللهب وتزغرد. وفي النهاية يخرج العمل منتصرا, وأنت تراه حيا, لا يختزن الجمال فقط, إنما يختزن بهجة الزغرودة وإن انهزمت. (2) كانت الكاميرا ترافقهم وهم يتسلقون جبلا وفي أيديهم معاول معدنية. وكلما صادفتهم شجيرة صغيرة جافة كانوا يكسرون الصخور من حولها حتي جذورها ذات العقد الصلبة, ويستخرجونها كاملة, ثم يضعونها في حقائب مفتوحة من قماش سميك يحملونها علي ظهورهم, وفي آخر اليوم يعودون. نحن الآن في بلدة صغيرة وأمام بناية قديمة من طابق واحد, علي واجهتها لافتة طويلة باهتة تحمل اسم العائلة, إنها الورشة. في الداخل طاولات وآلات دقيقة متناثرة, الجد العجوز والأب المسن وعدد من الاحفاد الشباب, كلهم يرتدي من الجلد, إنهم يفحصون الشجيرات الجافة التي تم جمعها, يعثرون علي بعض العقل ويعزلونها عن بقية الاغصان مستخدمين آلاتهم, إنها إحدي الورش النادرة والموروثة لصناعة أدوات التدخين( البايب). هذه العقل أصلية لن يوجد بينها متشابهان, وهي لا تسخن مع الاستعمال ولا تؤثر فيها النار. نحن الآن مع الجد العجور وقد راح يعمل في تشذيب عقله جعل لها انتفاخا خفيفا من اسفلها وشفة ناعمة من أعلاها, وهو لا يقترب من لحائها الطبيعي الناعم الذي يغلفها بلونها الذهبي الداكن, كأنها مكسوة بطبقة جميلة من الجلد, وكلما اشتغل وضعها علي قاعدتها فوق الطاولة يدرس توازنها, ولما صارت مثل إناء صغير مصمط تناول أداته يحفرها ويصنع لها تجويفا حيث يوضع التبغ. وبعدما انتهي راح يتأملها من هنا ويتأملها من هناك, ويزنها في كفه, ثم اختار جانبا عمل فيه ثقبا ينفذ الي قلب هذه الحلة, بعد ذلك استدار الي الاغصان المركونة وانتقي واحدا به ميل خفيف, أخذ وقتا طويلا حتي ثقبه وصنع مبسما نفخ فيه, وعالج كل طرف منه ودسه في الغليون, ووضعه كاملا علي الطاولة بعيدا عن عينيه وراح يتأمله, قطعة نادرة لا مثيل لها أبدا, والكاميرا صورت هذه الخطوات في عدد لا يحصي من المرات. نحن الآن في الشانزليزيه بباريس, نقف أمام محل مضاء يختص بأدوات التدخين, والكاميرا تقترب من الفاترينة حتي تتوقف في القلب منها أمام رف زجاجي معلق بخيوط حريرية خفيفة. وكان الغليون يستوي عليه وحيدا في الضوء الباهر, بلحائه الذهبي الداكن, وغصنه المائل.