أربعة أسابيع مضت علي مأساة نجع حمادي تكفي لأن نلملم أحزاننا ونكفكف دموعنا. أربعة أسابيع تكفي لأن نراجع كل ما كتبناه وقلناه.. سنكتشف بسهولة أنه قد أصبح لدينا تشخيص متكامل وعميق بشأن ما جري. قد تتباين وجهات نظرنا حول هذه الجزئية أو تلك الفرعية, لكن المؤكد اننا في النهاية ندرك الآن حقيقة الأسباب والعوامل والأجواء التي أفضت إلي هذه المأساة التي أوجعت قلوبنا وأذهلت عقولنا. ولم تعد معرفتنا تقتصر علي تفسير ما جري بل إنها تحيط أيضا بسبل العلاج ووسائل المواجهة.. ربما جاءت مأساة نجع حمادي لتهزنا وتستنفرنا وتذكرنا أنه قد آن الأوان لكي نواجه مسألة وحدتنا الوطنية بما تفرضه من صراحة.. صراحة تفرض علينا الاعتراف بأن ثمة أزمة يتعين معالجتها بقدر ما توجب علينا رفض كل وأية محاولة دولية تدس أنفها في شأن من شئون وطننا ولو وصل الأمر لأن تبقي هذه اللجان الدولية في احدي قاعات مطار القاهرة تحتسي قهوتها ريثما يصل اليها موظف من وزارة الخارجية يسلمها تقرير لجان تقصي الحقائق التي أوفدها مجلس الشعب أو المجلس القومي لحقوق الانسان.. فلن يعرفوا ولن يكتبوا أكثر مما ورد في هذه التقارير. لكن يظل علينا نحن وفي الأحوال كافة أن نتساءل: ماذا بعد وكيف نبدأ؟ ماذا بعد أن عرفنا الأسباب وناقشنا الحلول؟ ماذا ننتظر لكي يتحول كلامنا إلي أفعال؟ لم نعد نحتاج إلي دراسات اجتماعية لسبر أغوار الأزمة واقتراح معالجتها فلدينا منها الكثير.. لم يعد ينقصنا علي الصعيد الحقوقي مقترحات ومشاريع قوانين لإصلاح بعض الأوضاع, فلدينا منذ فترة مشروع القانون الموحد لبناء وترميم دور العبادة, كما لدينا مقترحات بمشاريع قوانين لتعزيز مبدأ المواطنة. علي الصعيد التربوي والتعليمي اصبح واضحا للعيان ضرورة تطوير مقرراتنا التعليمية بما يتيح إدماج قيم احترام الاختلاف وقبول الآخر كجزء لا يتجزأ من صلب هذه المقررات. وللإعلام أيضا دور بل أدوار ينبغي استدعاؤها وتفعيلها علي الفور. لا أعتقد أن الأمر يتطلب وقتا طويلا لكي تظهر علي فضائياتنا الحكومية والخاصة برامج تسلط الضوء علي الوجه الآخر الايجابي والمضئ في علاقة أبناء هذا الوطن بأقباطه ومسلميه. من الظلم ألا نري في مصر سوي مأساة نجع حمادي. فهناك مصريون مسلمون وأقباط يعيشون في تجانس وطني وتآلف اجتماعي بحيث يصعب التفرقة بينهم. المطلوب الآن من الاعلام الحكومي والخاص المرئي والمكتوب أن يتقدم الصفوف الامامية في مشهد مواجهة الفتنة والتعصب. هناك شهادات وحكايات ومواقف في علاقة المسلمين والاقباط جديرة بتسليط الضوء عليها حتي يعود للمجتمع ثقته في نفسه. ثقة يبدو أنها قد اهتزت بشدة عقب مأساة نجع حمادي وغيرها من الأحداث الأخري ليست هي السمة الغالبة للمجتمع المصري مهما بدت بشاعتها ومأساويتها. صحيح أن هناك متعصبين ومتطرفين ومنغلقين, لكن الصحيح أيضا أن هناك متسامحين متحابين منفتحين من المسلمين والاقباط معا. ليس لدينا احصائيات وأرقام حول عدد هؤلاء وأولئك, لكن المؤكد أن الأغلبية الساحقة من المصريين ينتمون إلي هذا النوع الثاني. المشكلة في هذه الأغلبية أننا نضل الطريق اليها, وهي بدورها عازفة عن التواصل معنا. الاعلام وحده يمكنه الوصول إلي هذه الأغلبية والتعبير عنها. ولا شك أن الاعلام في ذاته وسيط يمتلك أدوات ووسائل التواصل والتأثير, لكنه يحتاج بالتأكيد إلي مضمون ورسالة وفكر وفن. وهذه هي مسئولية الفنانين والمفكرين والأدباء والكتاب. إن أغنية واحدة ذكية وملهمة تسري في أوساط الملايين قد تتجاوز في تأثيرها ألف مقال مدبج عن الوحدة الوطنية. إن فيلما سينمائيا ناجحا يعالج بلغة انسانية مؤثرة وأدوات فنية مبهرة قضية مثل علاقة المسلمين والأقباط قد يكون أوقع في تأثيره علي الناس من مئات الندوات والمؤتمرات.. لماذا؟ الاجابة ببساطة لأن الخطاب الثقافي والفكري عن الوحدة الوطنية إنما يتجه عبر المؤتمرات والندوات ومن خلال المقالات والدراسات إلي الشريحة المثقفة والمستنيرة التي تحتاج أصلا إلي تثقيف أو زيادة وعي في موضوع الوحدة الوطنية. أما الشرائح الأخري الأقل وعيا وتثقيفا والأكثر عددا والأشد خطورة علي الوحدة الوطنية فهي تحتاج إلي وسائط وأدوات أخري وليس أكثر من الاعلام والفنون انتشارا ورواجا وقدرة علي التأثير في هذه الشرائح. لدينا شرائح اجتماعية عريضة ذات أفكار مغلوطة وتصورات مشوهة عن حرية العقيدة والحق في الاختلاف تحتاج لمن يصحح وعيها وينمي لديها احترام الآخر وقبول الاختلاف. وبما أن هذه الشرائح الأخري لا ترتاد المؤتمرات والندوات ولا تطالع المقالات المدبجة والدراسات فإن الوصول اليها يكون أيسر وأعمق عبر الوسائط الإعلامية والفنية الأكثر رواجا وانتشارا. يكفي ان هذه الوسائل مثل التليفزيون والأغنية والفيلم يمكنها ان تتواصل مع جمهور عريض لا يعرف القراءة والكتابة ممن يقدر عددهم حتي اليوم بنحو30% من أهل مصر. لكن السؤال هو كيف يمكن تفعيل دور الإعلام والفنون لتصحيح الوعي ونشر القيم لدي الملايين؟ قد يكون للدولة دور كبير باعتبارها منتجة خدمة إعلامية وثقافية, فلدينا وزارة للإعلام وأخري للثقافة تمثل هذه الأمور والقضايا صلب رسالتهما. بل ان وجود وزارة للإعلام وأخري للثقافة في دول مثل مصر هو تحديدا للاضطلاع بهذه الأدوار التوعوية والمسئوليات الثقافية في عصر لم تعد فيه كثير من الدول تهتم بتخصيص وزارات للإعلام والثقافة. لكن الدولة ليست علي أية حال هي المعنية وحدها بأداء هذا الدور التثقيفي والتنويري بل إن كل مقدمي ومنتجي الثقافة والفنون في المجتمع مطالبون بأداء هذا الدور سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات خاصة. ولعل الذي لا يقل أهمية ولا خطورة عن الخطابين الإعلامي والثقافي في تصحيح الوعي ونشر القيم الصحيحة في موضوع الوحدة الوطنية هو الخطاب الديني. وعلينا اليوم أن نتحلي بقدر كبير من الشجاعة والصراحة والشفافية لمناقشة موضوع هذا الخطاب. نعرف جميعا أن مصادر الخطاب الديني الأكثر انتشارا وتأثيرا هي خطب الجمع في المساجد والآحاد في الكنائس, وهي أيضا البرامج الدينية في الفضائيات عموما والفضائيات الدينية علي وجه الخصوص إسلامية كانت أو مسيحية. السؤال الآن ما هو موقف هذا الخطاب الديني من محاولات تديين العلاقة بين مسلمي وأقباط مصر وهي تروج للاستقطاب الديني بدلا من أن تركز علي الوحدة الوطنية؟ من الخطأ بداية أن ننكر واقع الاختلاف الديني وأن نحاول القفز عليه في مجتمع مصري كان ومازال معروفا بالتدين والتروع الروحي. وفي ظل هذا الواقع فليس علي البعض أن يحلم بعلمنة هذا المجتمع فجأة أو يعتقد بإمكانية الحد من روح التدين فيه, فهذه هي سمة المصريين منذ عهد اخناتون حتي اليوم. لكن ما هو مطلوب وممكن اليوم أن يركز الخطاب الديني الإسلامي والقبطي علي القواسم المشتركة بينهما وهي كثيرة بدلا من الإلحاح علي مظاهر الخصوصية والاختلاف. ان الحديث عن القيم الانسانية المشتركة هو الأفضل والاجدي لخير الناس وأمنهم, أما الحديث عن الخصوصية والاختلاف فلن يجدي نفعا ولو لمئات السنين. ما هو مطلوب وممكن اليوم ان يركز الخطابان الإسلامي والمسيحي معا علي قيم حرية العقيدة واحترام الاختلاف. السؤال في النهاية هو كيف تتحول هذه الأدوار التعليمية والتشريعية والإعلامية والثقافية والدينية في شأن قضية الوحدة الوطنية من دائرة التنظير إلي أرض الواقع؟ كيف يتحقق التضافر المطلوب بينها؟ هل من المفيد كما اقترح البعض تشكيل مجلس أعلي للوحدة الوطنية أو للمواطنة؟ أم أن الأمر لن يعدو إنجازا شكليا بإضافة مجالس ولجان؟ لست أعرف.. لكن المؤكد أنه وبصرف النظر عن المسميات والأشكال فإننا نحتاج إلي جهة ما تضطلع بحد أدني لرسم مجموعة سياسات وخطط متناسقة ومتكاملة في هذه الخصوص. [email protected] المزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم