في كل مظاهرة أو احتجاج أو إضراب, نجد المسألة تتحول بشكل سريع إلي ما يشبه الصراع بين نقيضين. الشاطر فيه هو الذي يتحمل الضغوط ويصر علي وجهة نظره وينجح في لي ذراع الآخر, دون التفات إلي حجم الخسائر المادية التي ستترتب علي عملية الإصرار. فالمضربون عن الطعام أو العمل لديهم اقتناع أن حكومتنا السنية سوف ترضخ في النهاية للابتزاز وستحاول التعجيل بوضع حلول تتناسب مع تطلعاتهم وأمنياتهم. والأخيرة علي يقين أن استجابتها الفورية لمطالب المتظاهرين والمحتجين سيفقدها جانبا معتبرا من هيبتها المعنوية. لذلك يستخدم كل طرف ما يملك من أسلحة مختلفة لإجبار الآخر علي رؤيته. وكأننا في مباراة, الرابح فيها من ينظم أوراقه ويجيد توظيف قدراته ويتقن مناوراته. تصلح هذه المقدمة لتطبيقها علي كثير من الاحتجاجات وتفسير عدد كبير من الاضرابات, التي حدثت خلال الأشهر الماضية. واتخذت غالبا من شارع مجلس الشعب بالقاهرة مكانا لتوصيل صوتها إلي آذان المسئولين وعيون المشاهدين. لكن في اضراب المقطورات الذي بدأ في العاشر من ديسمبر الجاري, الموضوع يبدو مختلفا من زوايا عدة. أبرزها, شيوع اضراب سائقي المقطورات وخلفهم أصحابها في عدد من المحافظات, أهمها الاسكندرية والقليوبية والدقهلية والغربية. وتعمد استخدام وسائل تحريض وتخريب مدمرة, وصلت إلي حد إحراق بعض السائقين المضربين سيارتي نقل علي طريق الصالحات- دكرنس أثناء سيرهما, والتهديد بإحراق كل سيارة تخرق الإضراب. بهدف تضييق الخناق علي الحكومة والنيل من هيبتها, لإجبارها علي عدم تنفيذ قرار تحويل المقطورات إلي تريلات في أغسطس.2012 وهو القرار الذي بدأت الحكومة فعلا التمهيد لتطبيقه, من خلال الاستعانة بهيئتين دوليتين, إلي جانب هيئة المواصفات والجودة لوضع الملامح النهائية وتحديد التكلفة العملية. يبدو أن الحكومة اطمأنت لصواب خطواتها ومقتنعة بحسن تدبير إجراءاتها. فوزارة المالية مثلا, ألغت قواعد المحاسبة الضريبية الجديدة, التي صدرت وفقا للكتاب الدوري رقم47 لسنة2010 في نوفمبر الماضي. ووعدت مصلحة الضرائب بالتوصل إلي قواعد جديدة للمحاسبة الضريبية في إطار القانون, كوسيلة للتحايل علي فض الإضراب. رغم أهمية الخطوة السابقة, إلا أن الوزارات المعنية, مثل المالية والصناعة والداخلية والنقل والشئون الاجتماعية, كانت تتصرف بصورة فردية. وتجاهلت مجموعة كبيرة من التأثيرات السلبية الناجمة عن الإضراب وذيوله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحضارية أيضا. الأمر الذي وضع الحكومة في مأزق, ربما يجبرها في النهاية علي القبول برؤية المضربين, التي تطالب بتقديم المزيد من التسهيلات لأصحاب المقطورات. لأن ارتفاع حجم الخسائر الاقتصادية يتزايد واتساع نطاق الانعكاسات علي قطاعات مختلفة يتمدد. ويكفي أن الخسائر اليومية للإضراب قدرت بحوالي500 مليون جنيه. فضلا عن زيادة كبيرة في أسعار سلع حيوية, كالدقيق والسكر والزيت ومواد البناء والأسمدة. وكل ما تقوم بنقله المقطورات لمسافات بعيدة أو قريبة, حتي أن بعض المصانع اضطرت إلي تخفيض انتاجها لتجنب استمرار الخسائر. والخطورة أن النتيجة التي وصل إليها الإضراب ضاعفت الأعباء علي كاهل الجهات الرسمية وتفشل جهودها لخفض الأسعار. الحاصل أن الحكومة أصبحت في موقف لا تحسد عليه, لا هي تستطيع الاستمرار في توجهاتها لتنفيذ قرار تحويل المقطورات إلي تريلات بصرامة, ولا الرضوخ لمطالب أصحاب المقطورات. ومع أن الأزمة بدأت تهدأ نسبيا, إلا أن الحكومة أخطأت التقدير في التعامل معها, من ثلاث نواح رئيسية. الأولي, أنها تحركت في البداية بدافع وقف نزيف الدماء علي الأسفلت. فحوالي40% من حوادث الطرق تتحمل مسئوليتها المقطورات وسائقو الشاحنات. وأصبح البعض يشكك في حفاظ الحكومة علي أرواح المواطنين. وعندما اتخذت هذا القرار غضت الطرف عن حقيقة تؤكد أن المشكلة ليست في المقطورات, بل في مدي الالتزام بالحجم وشكل الحمولات. فالسيارة3 أكس المقرر أن تحمل33 طنا تحمل حسب بعض البيانات الرسمية113 طنا. ما يعني أن الطاقة الحركية للسيارة والمقطورة تنذر بكارثة. كما أن هذه الحمولة تؤثر علي العمر الافتراضي للطريق وصلاحيته للسير. بكلام آخر, سوف تستمر المشكلة علي حالها, في ظل عدم وجود ضمانات أكيدة بالتزام التريلات الجديدة بالحمولة القانونية. وبالتالي ستظل أرواح المصريين في خطر, سواء في عهد المقطورات أو في كنف التريلات. الثانية, عدم توفير وسائل نقل بديلة, تخفف العبء من علي كاهل النقل البري, الذي يتحمل بمفرده نحو95% من عمليات النقل, في حين لا يتجاوز النقل النهري أو عبر السكك الحديدية نسبة5% فقط, مع مراعاة أن إجمالي حجم البضائع المنقولة في مصر يبلغ540 مليون طن, منها150 مليون طن يتم نقلها بواسطة العربات ذات المقطورات. وحتي الآن لم تظهر نتائج الخطط الخاصة بالتوسع في النقل النهري أو من خلال السكك الحديدية. لذلك فحل أزمة المقطورات يتطلب بحث الملف من جوانبه المختلفة. لأن الكثير من الخبراء يعتبرون النقل نظاما متكاملا وبنية أساسية مكونة من وسيلة النقل والناقل والمنقول والطرق والبنية التشريعية المنظمة. الثالثة, الافتقار لوجود أرقام دقيقة لعدد المقطورات ومساهمتها الحقيقية في نقل البضائع. فحسب احصائيات الادارة العامة للمرور هناك56 ألف مقطورة. وطبقا لأرقام وزارة النقل يوجد18 ألف فقط. بينما قال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء إن الرقم الحقيقي في عام2008 كان69075 مقطورة. ويظهر التضارب في الأرقام أحد وجوه التناقض في التعامل مع الأزمة وتشريحها وعلاجها. وهو ما جعل الترحيل والتسكين أكثر من مرة حلا مواتيا لبعض المسئولين. والمشكلة الآن في زاويتين, تجعلان التأجيل أو التسويف عملية صعبة المنال. الأولي, تأكيد الرئيس مبارك أن أغسطس2012 موعدا نهائيا لحل الأزمة. والثانية, الترويج بوجود مصالح لرجال أعمال من وراء استيراد المقطورات. ويكفي أن فتح هذا الباب جلب1800 مقطورة مجهزة خلال ستة أشهر, بينما كان هذا الرقم يتم استيراده علي مدار العام. ناهيك عن الغموض الذي يلف بعض المصانع المسئولة عن تحويل المقطورات إلي تريلات. من هنا حاول أصحاب المقطورات التمادي في الإضراب وتوسيع مظاهره السلبية, ليس طمعا في تمديد فترة السماح, لكن للحصول علي أفضل تنازلات وتسهيلات ممكنة من الحكومة, التي سعت إلي تفكيك الإضراب من داخله بوسائل متعددة, مستفيدة من ارتفاع حدة الخلافات بين أصحاب المقطورات, فحوالي70% منهم أفراد. وهو ما يجعل الحديث عن حلول واقعية غاية في الصعوبة وتحديد المسئوليات بعيد المنال. الأمر الذي يضاعف من المأزق المشترك للحكومة والمضربين, بما فرض العودة لاستخدام المسكنات والمهدئات لوأد فتنة المقطورات.