في قضية كالتي نحن بصددها فان معرفة أين يقع الحق بين الطرفين يأتي في مرتبة متأخرة في سلم أولويات البحث عن الحقيقة وفي كل الاحوال وبرغم اي كلام قيل ام يمكن ان يقال بعد ذلك فان الطرف الاول وهو الدولة يتحمل اللوم الاكبر ليس فقط كونها مالكة القوامة والسلطة ولكنها ايضا الاكثر خبرة وهي الطرف الذي يدير ويمارس السياسة وحسما لأي تخمينات خبيثة فاني شخصيا -ولأسباب فنية- غير متعاطف مع اضراب المراقبين الجويين الخمسمائة فمن جهة تبدو الاوضاع المالية للمضربين افضل حالا من باقي فئات المجتمع الوظيفي بما فيهم الاطباء واساتذة الجامعات وكبار الضباط وغيرهم ومن جهة ثانية فان استغلال ظرف سياسي معين كالذي نمر به لتمرير مطالب فئوية صغيرة هو عمل يجافي السلوك القويم وهو ممارسة لأردأ انواع الانتهازية السياسية هذا كله دون الدخول في تفاصيل مشروعية طلبات المراقبين الجويين الذين ملأوا الدنيا ضجيجا طوال الشهور الماضية واستطاعوا ايصال صوتهم الي كل مكان في العالم تأتي منه طائرة الي المطارات المصرية. المراقبون الجويون تدور رواتبهم حول اربعة الاف جنيه كل شهر وهو مبلغ نراه كبيرا ويرونه صغيرا اذا ما قورن برواتب زملائهم في مطارات طوكيو ونيويورك ولندن واذا ما قورن برواتب الطيارين والوافدين الجدد علي وزارة الطيران كما ان لهم مطالب اخري تتعلق بتحسين ظروف العمل والرعاية الصحية وغيرها وهي كلها مطالب وظيفية مشروعة من حيث المبدأ والسعي نحو تلبيتها هو امر مشروع ايضا المشكلة ان ادارة الطيران المدني التي تحولت اسما الي شركة مازالت تفكر بعقلية القطاع العام لا تعي فيما يبدو حجم المتغيرات التي طرأت علي أحوال العمل في العالم والذي اصبحنا جزءا منه برغم ارادتنا وان من بين هذه المتغيرات حق الموظفين في المطالبة بالحقوق التي يرونها وحقهم في تصعيد صراعهم مع صاحب العمل بصورة منهجية وقانونية للوصول الي حل لمشكلاتهم هذا الحق اصبح مستقرا في ثقافة العمل الدولية وكل يوم تحمل الاخبار حالات وحالات من الاضرابات والمفاوضات بين العمال واصحاب الاعمال في انحاء العالم بغية تحقيق مطالب وظيفية والحل في غالبية الحالات يأتي بالتفاوض والوصول الي ترضيات وحلول وسط تسمح بسير العمل الذي هو اهم من كل شيء لدي جميع الاطراف وقد يحدث ان تري الادارة ان اصرار المضربين علي مطالبهم المبالغ فيها هو في غير صالح العمل فتبادر بتقديم استقالتها عسي ان تأتي ادارة جديدة تكون قادرة علي حل المشكلة وقد يحدث في حالات اخري ان تصل الامور الي حل الشركة نفسها بعد ان يتيقن الجميع ان لا حل اقتصاديا للمسألة ومع ذلك فان رصد سلوك ادارة الطيران المدني تجاه تباطؤ المراقبين الجويين يجده بعيدا تماما عن هذه المفاهيم بل هو يفتقر الي ابسط قواعد السلوك السياسي والاقتصادي معا. الادارة كما يبدو قررت تجاهل مطالب المراقبين الجويين منذ البداية مما دفعهم الي سلوك التباطؤ فردت بفصل زعماء الاضراب علي غرار ما كان يحدث مع طلبة الجامعات في النصف الأول من القرن العشرين! وكان طبيعيا ان يؤدي ذلك الي اثارة غضب ويأس المضربين فزادوا من تباطؤهم الي ان تجاوزت الخسائر 30 مليون دولار حتي الآن فأين اذا حسن الادارة في هذا السلوك واين السياسة والاقتصاد في طريقة معالجة هذه الازمة. ان تكلفة مطالب المراقبين الجويين بفرض تلبيتها جميعا لا تزيد علي عدة ملايين قليلة من الجنيهات اما الخسائر فهي كما سبق ومرشحة للزيادة كل يوم فأين المصلحة التي تحققها طريقة المعالجة الحالية للازمة؟ ان التذرع بمفاهيم بالية كهيبة الدولة ورفض لي الذراع كمبرر للتشدد في حل ازمة عمالية لم يعد ممكنا في ظل تعقد مناخ العمل مقرونا بالحقوق المدنية تلك الحمي التي تجتاح العالم وهي حمي طيبة بالمناسبة والتي لا ينقص من ايجابياتها اية ممارسات رذيلة تحدث متكئة علي هذه الحقوق هناك الكثير مما يمكن ان يقال للمراقبين الجويين في حالة بدء مفاوضات جادة معهم جهة تقليص مطالبهم المالية ولكن هذا يفترض ان تكون هناك مفاوضات لا املاءات اما التجاهل التام فمن شأنه تعقيد الازمة بل ودفع آخرين يفكرون في مطالب موازية الي الحذو حذوهم كما يتردد في الاخبار فماذا سيكون موقف الادارة عندئذ القضية كما بدأناها ليست في اين يقع الحق ولكن في كيفية تحقيق المصلحة وهذا هو جوهر المفاوضات العمالية منذ عقود من الزمان وهذا ما يتعين الاخذ به ضمن حزمة القوانين والافكار والبرامج التي تشكل اقتصاد العام اليوم.