ألقت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في العاشر من ديسمبر الجاري, كلمة أمام مركز سابان التابع لمعهد بروكينجز, أعلنت فيها توقف الإدارة الأمريكية عن المطالبة بتجميد البناء في المستوطنات اليهودية. وشددت في نفس الوقت علي عدم تخلي الإدارة الأمريكية عن جهودها لتحقيق السلام في الشرق الأوسط. واضافت أن الإدارة الأمريكية سوف تركز جهودها علي رعاية مفاوضات غير مباشرة يتم فيها بحث كل القضايا الجوهرية للصراع الحدود, القدس, اللاجئين, المياه, والأمن. وأعلنت أن المبعوث الأمريكي للمنطقة السيناتور جورج ميتشيل سوف يزور المنطقة ويلتقي المسئولين الفلسطينيين والإسرائيليين من أجل الاستماع منهم مباشرة إلي مواقفهم بشأن هذه القضايا. تباينت ردود الفعل علي هذا التوجه الأمريكي, كما أنها بدأت تختلف بمرور الوقت, وكانت هناك أكثر من قراءة داخل الطرف الواحد لما ورد علي لسان وزيرة الخارجية الأمريكية, فرد الفعل الأولي من جانب الحكومة الإسرائيلية كان الترحيب بإعلان وزيرة الخارجية الأمريكية أن واشنطن أوقفت جهودها الرامية إلي إقناع الحكومة الإسرائيلية بتجميد البناء في المستوطنات اليهودية, وهناك من اعتبر الإعلان بمثابة نصر لحكومة نتنياهو لاسيما وأن كلينتون وجهت انتقادا مباشرا لقرار البرازيل والأرجنتين الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة علي حدود ما قبل الخامس من يونيو.1967 ولكن بمرور الوقت ظهرت قراءة إسرائيلية مغايرة بدأت مع إيفاد السيناتور ميتشيل إلي المنطقة, فالتقدير الإسرائيلي كان تراجع الاهتمام الأمريكي بملف الشرق الأوسط لحساب ملفات أخري داخلية ودولية, ولكن إيفاد ميتشيل عني بالنسبة لهم إصرار الإدارة الأمريكية علي مواصلة جهودها لإدارة عملية التسوية. وقد دفع هذا التوجه دوائر إسرائيلية لإعادة قراءة ما ورد في كلمة كلينتون, ووضعوا خطوطا عدة أسفل فقرات وردت في الخطاب أثارت مخاوفهم, منها أن وزيرة الخارجية الأمريكية أثنت علي الجهود التي يقوم بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس, ورئيس وزرائه سلام فياض, في حين لم تذكر اسم نتنياهو, ومنها أيضا تأكيد الوزيرة الأمريكية أن الإدارة سوف تسهم في بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية, وإشارتها إلي ضرورة إنهاء الاحتلال بالقول ينبغي أن يبلغ القادة الفلسطينيون مرحلة يستطيعون فيها أن يظهروا لشعبهم أن الاحتلال الإسرائيلي قد انتهي وهناك من رأي في هذه الإشارة ما يفيد رفضا أمريكيا ضمنيا لمطلب إسرائيلي باستمرار سيطرة الجيش علي غور الأردن في ظل أي اتفاق سلام. ايضا الدعوة التي وجهتها وزيرة الخارجية الأمريكية لزعيمة المعارضة الإسرائيلية تسيبي ليفني للقائها, والاجتماع معها لأكثر من ساعة لأول مرة منذ تولي نتنياهو رئاسة الحكومة, ووضع هذا الاجتماع في إطار تجنب الإشادة بنتنياهو أو مجرد ذكر اسمه, إضافة إلي ما ذكرته مصادر إسرائيلية من وجود حالة من الغضب الأمريكي الشديد من زعيم حزب العمل, وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك الذي تتهمه واشنطن بخداعها لأنه أكد لها أن نتنياهو تغير وأنه يختلف عن نتيناهو1996, ومن ثم قوله بأن نتنياهو جاد في التوجه نحو تسوية سياسية حقيقية, وقد أدي هذا الغضب الأمريكي من وزير الدفاع الإسرائيلي إلي دفع الأخير للقول بأن التسوية السياسية تنهض علي أساس حل الدولتين وتقسيم القدس, كما هدد أحد أبرز قادة حزب العمل, وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي بنيامين بن أليعازر, بخروج الحزب من الحكومة في حال جمود المفاوضات بسبب تصلب موقف الحكومة الإسرائيلية. في المقابل اتسمت القراءة الفلسطينية والعربية للتوجه الأمريكي الجديد بقدر أكبر من الواقعية, والعمل علي الاشتباك الإيجابي مع هذه الأفكار, فمن ناحية شدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس علي أنه لا تفاوض في ظل مواصلة البناء في المستوطنات, كما عقد اجتماعا للجنة المركزية لحركة فتح, ثم التنفيذية لمنظمة التحرير خلص إلي الدعوة لتحرك دولي واسع لضمان إنقاذ عملية السلام, دعوة اللجنة الرباعية لاجتماع عاجل لوضع الأسس الكفيلة بإطلاق علمية السلام من جديد. وطالب الجانب الفلسطيني بضمانات جدية لأية عملية سلام قادمة تتمثل في توفير الأسس التي تم التأكيد عليها وهي وقف شامل للاستيطان, توفير مرجعية سياسية واضحة تشمل بالأساس إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية التي احتلت في يونيو1967, وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية, ووجود قوة دولية ثالثة علي الحدود الفلسطينية, وحل جميع قضايا الوضع النهائي وخاصة قضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدوليةب. في نفس الوقت تمت دعوة لجنة المتابعة العربية إلي الانعقاد الأربعاء للنظر في الموقف والتباحث حول السبل التي يمكن طرقها في الفترة القادمة بعد التغير في الموقف الأمريكي. ويبدو واضحا أن الإدارة الأمريكية قررت التخلي عن جهود وقف البناء في المستوطنات كشرط مسبق لاستئناف المفاوضات المباشرة, نزولا علي موقف إسرائيلي, يتعامل مع أوباما علي أنه بات أضعف كثيرا بعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس, أي بعد فقدان الغالبية في مجلس النواب, وتراجع غالبيته في مجلس الشيوخ. كما أن إدارة أوباما واجهت تحديا إسرائيليا يقول أن ما تطرحه من وقف البناء في المتستوطنات لم يسبق أن كان شرطا فلسطينيا في كافة المفاوضات التي دارت من قبل, ومن ثم علي الإدارة الأمريكية التوقف عن طرح هذا الشرط. وبدا واضحا أن الحكومة الإسرائيلية كانت ترمي من وراء إقرار الإدارة الأمريكية بهذا المطلب, ضرب مصداقية أوباما وإدارته, وإفقاده ثقة الجانب العربي تماما, فالتقدير الإسرائيلي هو أن خطابات أوباما أحدثت ثورة توقعات لدي الجانب الفلسطيني والعربي, وأن هذه التوقعات باتت تمثل عائقا أمام تمرير صيغة إسرائيلية للتسوية, وأنه ما دام هناك رهان فلسطيني وعربي علي أوباما, فلن يكون ممكنا السير في مفاوضات للتسوية السياسية. من هنا تعاملت الحكومة الإسرائيلية مع إعلان الإدارة الأمريكية عن وقف جهودها لتجميد البناء في المستوطنات علي أنه الخطوة الأولي في معركتها لضرب مصداقية أوباما. في المقابل بدت الإدارة الأمريكية حريصة علي عدم فقدان المصداقية لدي الجانبين الفلسطيني والعربي لذلك جاءت الإشادة بعباس وفياض, والتعهد بمواصلة تمويل بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية, ومواصلة رعاية المفاوضات. وبدا واضحا أيضا أن الجانب الفلسطيني أدرك أبعاد المعادلة, ومن ثم لم يصدر عنه رد فعل متسرع و فضل التريث و دعوة لجنة المتابعة العربية لتقديم الغطاء اللازم للموقف الفلسطيني, أعاد التأكيد علي صيغة لا تفاوض في ظل الاستيطان, والإشارة إلي البدائل الأخري التي يملكها الجانب الفلسطيني وتحديدا بديل طلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة علي حدود ما قبل الخامس من يونيو1967, كما جاء في الاعتراف البرازيلي ثم الأرجنتيني, لذلك جاءت التوصية من قبل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بإيفاد مبعوثين إلي جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي لطلب الاعتراف بدولة فلسطينية علي حدود ما قبل الخامس من يونيو.1967 ويبدو واضحا أن التوجه الفلسطيني والعربي في الفترة القادمة سوف يعتمد علي عدم المبادرة بالخروج علي معادلة المفاوضات كما تطالب واشنطن, أي استمرار الرهان علي المفاوضات, حتي لا تتعرض للانتقاد من الولاياتالمتحدة, وترك الأخيرة تبذل الجهود كما تريد, وتصل إلي طريق مسدود مع الحكومة الإسرائيلية, وفي نفس الوقت التركيز علي قضية الحصول علي اعتراف بالدولة الفلسطينية من أكبر عدد من دول العالم, فالمؤكد أن عدم خروج السلطة الوطنية علي المفاوضات غير الموجودة أصلا- وكشف مواقف الحكومة الإسرائيلية وجعل واشنطن تصل إلي قناعة بأن الحكومة الإسرائيلية هي التي تقف عقبة في وجه المفاوضات, سيؤدي إلي إضعاف الحجج الرافضة للاعتراف بالدولة الفلسطينية علي النحو الجاري الآن مع دول الاتحاد الأوربي التي تفكر في صيغة للتعاطي مع عملية التسوية تصل إلي الاعتراف الجماعي بالدولة الفلسطينية في حال وصول المفاوضات, في غضون عام, إلي طريق مسدود. من هنا يبدو مهما للجانب العربي والفلسطيني أن يصل إلي تفاهمات محددة مع اللجنة الرباعية, واشنطن والاتحاد الأوروبي تحديدا مؤداها الوصول إلي الدولة الفلسطينية في غضون عام علي أكثر تقدير, حتي نوفمبر القادم, سواء عن طريق المفاوضات أو عبر الاعتراف الدولي الجماعي بهذه الدولة, وينطوي هذا التوجه علي إعطاء واشنطن مدة عام تحاول استئناف التسوية كما تريد, مع تعهد فلسطيني وعربي بعدم الخروج علي هذه المفاوضات, الشرط الوحيد هو في حال فشل واشنطن في التوصل إلي تسوية سياسية في غضون عام واحد, يفتح الطريق أمام الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة سواء عبر قرارات فردية وجماعية أو من خلال قرار من مجلس الأمن الدولي, ويمكن بذل جهود مع الدول الأقرب إلي وجهة النظر هذه( علي غرار البرازيل والأرجنتين) لدفعها إلي الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أقرب وقت, فكل اعتراف بالدولة الفلسطينية علي حدود ما قبل الخامس من يونيو1967, يمثل خطوة علي طريق دفع واشنطن إلي تسريع جهود التسوية أو يضع مزيدا من القيود عليها لعدم عرقلة الاعتراف بالدولة الفلسطينية. المؤكد أن الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية مستقلة علي حدود ما قبل الخامس من يونيو1967 خطوة متقدمة حتي علي الوصول إلي هذه الدولة عن طريق المفاوضات, فالاعتراف العالمي بالدولة سيغير جذريا من أساس التفاوض ويحدث نقلة نوعية في التعاطي معها, وأول هذه التغيرات تتمثل في إعادة تعريف القضية باعتبارها قضية احتلال تقليدي مطلوب تصفيته علي قاعدة عدم جواز اكتساب الأرض عن طريق القوة, مع عدم شرعية كل ما قامت به إسرائيل من تغييرات في البنية الجغرافية والديموجرافية الاستيطان والضم فضلا عن أن المفاوضات ستجري بعد ذلك بين دولتين, تحتل إحداهما أراضي الدولة الأخري. باختصار ينبغي أن يستند التحرك الفلسطيني والعربي في الفترة القادمة علي التوصل إلي تفاهم مع الدول الكبري علي منح من يريد التوسط ورعاية المفاوضات عاما كاملا, بشرط أن تتعهد بعدم عرقلة إعلان الدولة المستقلة إذا ما انتهي العام دون قيام هذه الدولة عن طريق المفاوضات.