تابعت بمحض الصدفة برنامجا إذاعيا شدتني إحدي فقراته إذ تناولت ما أسمته تليفزيون الحارة حيث علق شابان علي جدواه وكأن الأمر من مسلماتنا الحياتية التي لم يعد ينقصها سوي التقييم. ورغم ما هالني من طرح المسمي إلا أنه استحثني للبحث في الموضوع الذي يبدو أن ما أمكنني جمعه من معلومات قد أكد لي وكأنني أعيش في مصر موازية للتي أعرفها أو بالأحري( مصر الشقيقة), فقد وجدت أن قناة الجزيرة قد قدمت برنامجا وثائقيا عن الموضوع في حين تناوله برنامج العاشرة مساء, بل ومما زاد من فضولي إصدار سيادة وزير الإعلام بيانا حياله تناولته الفقرات الإخبارية في حينه. وفي محاولة لاستيضاح الصورة أجد لزاما علي التذكرة بالحملة التي قادتها شرطة المصنفات بعدما جأرت بالشكوي إحدي شركات الفضائيات من أسلوب الوصلة الذي حرمها من اشتراكات ومن ثم مكاسب مستحقة, وباتت العلاقة بين الشرطة في سحبها للوصلات وبين المستفيدين بمثابة مسلسل من نوع خاص يذكرنا بحلقات( توم وجيري) الشهيرة والتي لم يعدم فيها المطارد السبل لإحباط محاولات الإيقاع به, لاسيما إذا علمنا أن المستفيدين من الوصلة غير الشرعية يمثلون نوعا جديدا من تحالف قوي الشعب العاملة لم يفرق بين غني وفقير أو بين متعلم وغيره أو حتي بين منطقة عشوائية وأخري من ذوات الرقي. بيد أن العشوائية الإعلامية قد جاوزت بتليفزيون الحارة أبلغ مدي إذ باتت تقدم في الأحياء الشعبية برامج من عندياتها عبر الدوائر المغلقة أو الوصلة الجديدة وفق رغبة المشاهد, نظير دراهم معدودة يحصلها أصحاب ما يمكنني أن أسميه استديو الحارة وهو المحل الذي يتم البث منه. الأمر الذي يجعلني أخلص لعدد من مؤشرات الرصد وما يستتبعها من محاذير علي النحو التالي: أولا: إن هذه الظاهرة تمثل من وجهة نظري ردة إعلامية قد ترجع بنا إلي الإذاعات المحلية الخاصة التي كانت تبث قبل نشأة الإذاعة المصرية, وحتي لا يختلط الأمر علينا فمما لاشك فيه أن البون جد شاسع بين أسلوب البث المشفر المنطلق فضائيا, وبين أسلوب الوصلة بشقيه القديم والجديد.. لاسيما هذا الأخير الذي ينطلق من الفراغ مداعبا أحلام الفقراء في حق الترفيه الإعلامي حيث بات تعبير( تليفزيون الغلابة) اسما علي مسمي. ثانيا: إن بث مواد تليفزيون الحارة وفق هوي صاحبه يمثل عشوائية غير محمودة العواقب إذ لن يقتصر الأمر علي المادة الدرامية بأنواعها, فمن يدري ما يمكن أيضا بثه في ظل غيبة الرقابة عليها وانحسار هيبة الدولة عنها من مواد إباحية قد تسكب مزيدا من الوقود علي نار الغريزة المتأججة أصلا لدي أجيال بات لديها حلم الإشباع الفطري شرعيا أمرا عزيز المنال, بل ويمكن أن تصبح أيضا مرتعا خصبا لمواد ظلامية للفكر أو تغييبية للوعي أو موقظة للفتنة عندما يتصدر موائد الإرشاد فيها للتسجيل لهم سدنة التحلل القيمي والتطرف والنزق العقيدي, وليست أحداث المسرحية الكنسية التي استعر أوارها بين عنصري الأمة عنا ببعيدة. ثالثا: إن مفهوم( توفيق الأوضاع) الذي يمثل تعبيرا مهذبا عن التنازل السيادي في ظل إعلاء المصالح الضيقة علي المصلحة العامة قد يغري بعض أرباب هذا الإعلام العشوائي علي تحين الفرصة يوما للاعتراف به أو علي الأقل غض الطرف الرسمي عنه, في ظل استغلال الانتهازية الظرفية كالانتخابات النيابية أو المواجهات الطائفية والقبلية أو حتي تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية, ولسنا بحاجة للتذكير بقضية التوك التوك وما آلت إليه أخيرا من مشروعية فرضتها الظروف الخاصة رغم سوءاته العامة. رابعا: إن ما يخشي منه علي المدي البعيد يتعلق فيما نري بتداعيات هذه الظاهرة, إذ قد لا يقتصر الأمر علي تليفزيون الحارة ليتعداه إلي راديو وجريدة ومجلة الحارة, مادام في الأمر استعراض للمواهب واستقطاب للمكاسب, ليتسع الخرق علي الراتق ولنجد أنفسنا وقد أصبحنا مطالبين بمواجهة تعديات الجرائم الإلكترونية فوقيا وتجاوزات ميديا الحارة تحتيا. خامسا: إنه من قبيل الترف الفكري أن نؤكد حيال مواجهة هذه الظاهرة علي تفعيل قانون الحماية الفكرية علي أهمية أو أن نلقي بالعبء علي شرطة المصنفات الفنية علي ضرورته, بل ولا يكفي ما يصدر من بيانات الشجب الوزارية التي تري عن حق في هذه الظاهرة تشوها إعلاميا, إذ إن الأمر أصبح واجبا مجتمعيا ينبغي مواجهته بشيء من الحكمة والحسم في آن واحد, من ذلك مثلا مراجعة تراخيص محلات البث التي ما من شك إما أنها قد صدرت بمسميات لأنشطة أخري أو لم تستصدر ترخيصا من الأساس, علي أن يتم التدرج في العقوبة من الإنذار والغلق حتي المصادرة, وإن تطلب الأمر تشريعا جديدا ما لم يكن مدرجا أصلا حيال هذه الظاهرة, كما ينبغي تفعيل دور قصور الثقافة ومراكز الشباب لا سيما في القري من أجل توفير البديل الفاعل والقادر علي جذب قطاعات المجتمع المختلفة بتيسير سبل الترفيه لهم, حتي لو اقتضي الأمر إنشاء أكشاك للبث المجاني في الأحياء الشعبية علي غرار أكشاك بيع الخبز وغيره, مراعاة للظروف الاقتصادية من ناحية وبحكم أن القنوات الأرضية لم تعد كافية وحدها لاستيعاب النهم الإعلامي لدي المشاهدين الذي تعدي حدود الدراما إلي جميع أنماط الزخم الإعلامي. وأخيرا فإنني أهيب بجميع مؤسسات المجتمع علي تنوعها التصدي لهذه الظاهرة قبل تفاقمها ليس فقط لما تم سوقه من آفات محققة لا محالة منها, بل أيضا حتي لا تصبح مثل غيرها من السلوكيات غير المشروعة التي يمارسها المواطن. إذ تبدو في ظاهره خرقا للقانون وإن حملت أحيانا بين جنباتها حالة من حالات المواجهة النفسية غير المنظورة لسيادة الدولة التي قد تشبع في النفس لذة الانتصار علي قرارات الإذعان التي تصدر بين الحين والآخر أو ربما ترسخ فكرة أن يد القانون قد اعتراها الوهن ولم تعد قادرة علي الردع بيد أنه في المجمل لن يكون هناك منتصر أو مهزوم إذ سيصبح المجتمع لا قدر الله هو الخاسر الأوحد.