أكتب مرة أخري عن السينما التي قلت في مقالتي السابقة إنني لا أعد نفسي واحدا من جمهورها, وإن اعترفت بأن هذا الفن يقدم في بعض الأحيان مالايستطيع أن يقدمه فن آخر. والقراء الأعزاء في غني عن ضرب الأمثلة, لأنهم يعرفون السينما أكثر مما أعرفها. لكنني سأحدثهم هنا عن فيلم لا أظن أنهم يعرفونه. فهو فيلم فرنسي جديد عرض أول عرض منذ شهور قليلة, وقد شاهدته أخيرا في باريس. هذا الفيلم يصور حادثة واقعية لابد من التذكير بها قبل أن أبدأ الحديث عنه. ففي السادس والعشرين من مارس6991 اختطفت الجماعات الإسلامية المناهضة للسلطة في الجزائر سبعة من الرهبان الفرنسيين كانوا يعيشون في الدير الموجود في قرية تبيحرينب الواقعة في جبال الأطلس, بعد ذلك بشهرين, وعلي أثر اتصالات غير مثمرة بين الارهابيين والسلطات الفرنسية أعلن الارهابيون أنهم أعدموا الرهبان المخطوفين, وقد عثر علي رؤوسهم في الثلاثين من مايو, ولم يعثر علي جثثهم حتي الآن. وقد كان لهذه الحادثة الفظيعة دوي ضخم وتداعيات شتي, ففي عام3002, ونتيجة للتحقيق الذي أجرته السلطات الفرنسية المختصة حامت الشكوك حول الرواية الرسمية المقدمة عن الحادث, وفي العام الماضي9002 وعلي أثر البحث الذي قام به الصحفي الأمريكي جون كيرز, بالإضافة إلي ماكشف عنه الملحق العسكري الفرنسي السابق في الجزائر أصبح تورط الجيش الجزائري في هذه المسألة احتمالا مطروحا. وفي سبتمبر هذا العام قدم المخرج الفرنسي اكزافييه بوفوا فيلمه بشر وآلهة الذي صور فيه الواقعة, كما كشفت عنها التحقيقات, وكما رأها هو وفسرها, فالفيلم ليس مجرد تسجيل لحادثة, وإنما هو إجابة علي الاسئلة التي تطرحها, لا الاسئلة البوليسية, وإنما الاسئلة السياسية والفكرية والأخلاقية التي لاتشغل الفرنسيين وحدهم, وإنما تشغلنا معهم وتشغل العالم كله معنا ومعهم. فكيف يكون مستقبل البشر؟ وكيف نكافح هذه الموجات المتلاحقة من التعصب والتطرف والعنف والإرهاب؟ وهل تصدق التنبؤات السوداء التي تتحدث عن الصدام الحتمي بين الحضارات المختلفة؟ أم ينجح البشر في تحويل كوكبهم المهدد إلي قرية كونية متآخية؟ كيف أجاب الفيلم علي هذه الاسئلة؟ لنلتمس الجواب أولا في العنوان بشر وآلهة وهو عنوان تتكرر فيه صيغة الجمع لتقول لنا إن البشر مختلفون, لأنهم متعددون, وهذا أمر واضح. لكنها تضيف إلي تعدد البشر تعدد الآلهة, وهو أمر يحتاج إلي تفسير, لأن الله واحد بالنسبة للطرفين المتصارعين في هذه الواقعة, الرهبان المسيحيين الضحايا, والإرهابيين المتحدثين باسم الإسلام, فكيف تعدد في العنوان؟ تعدد في العنوان ليدل هذا التعدد علي اختلاف العقائد واختلاف التصورات نتيجة لتعدد الثقافات البشرية, واختلافها. فالله عند المسلمين واحد منزه عن كل شبيه وشريك وان تعددت صفاته, الذات الآلهية واحدة, والصفات كثيرة. أما عند المسيحيين فالله واحد, والأقانيم ثلاثة. والأقانيم كلمة سوريانية مفردها أقنوم, أي أصل, فالأقانيم إذن هي الأصول التي تقابل الصفات في العقيدة الإسلامية ولاتتناقض مع وحدانية الله( باسم الأب, والابن, وروح القدس إله واحد). وبوسعنا أن نقول إن العقيدة المسيحية تقوم علي الإيمان بوحدة الوجود التي تقوم عليها عقيدة المتصوفة المسلمين أو جانب منهم. فالله موجود في كل الوجود. والعالم كله مرايا يتجلي فيها وجه الله. والمرايا تتعدد, والنظرات تختلف, لكنها تأتلف لأنها تسعي كلها لإدراك حقيقة واحدة هي التي رآها محيي الدين بن عربي في صورة الظبي المبرقع وهو رمز للجمال وطريق إلي الحب: ومن أعجب الأشياء ظبي مبرقع يشير بعناب, ويومي بأجفان لقد صار قلبي قابلا كل صورة فرعي لغزلان, ودير لرهبان وبيت لأوثان, وكعبة طائف وألواح توراة, ومصحف قرآن أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه, فالحب ديني وإيماني! وهكذا لايصح الإيمان إلا بالحب. لكن المتعصبين لايعرفون الحب, لأنهم يقفون في النصوص عند المعاني الحرفية التي تفرق, ولايتجاوزونها إلي الحقيقة الواحدة التي يعبر عنها أصحاب كل عقيدة بلغتهم وبطريقتهم الخاصة في التفكير. وبدلا من أن تكون العقائد المختلفة طرقا متعددة إلي الله الواحد يتحول التعدد إلي تباعد وتباغض وكراهية, ويصبح المؤمنون الموحدون مشركين لكل منهم إلهه الذي يختلف عن إله غيره. ومن هنا كان عنوان الفيلم الذي أتحدث عنه بشر وآلهة بصيغة الجمع. كأنه أراد أن يقول لأصحاب الديانات المختلفة إذا كنتم تؤمنون حقا بإله واحد تتجهون له جمعيا في صلواتكم فأنتم إذن متفقون, وأنتم إذن إخوة. أما إذا ادعي كل منكم أنه وحده المؤمن الموحد ورمي الآخرين بالكفر وأعتبرهم عدوا له فقد أشركتم وصار لكل منكم آلهه! وقد انحاز الفيلم للأخوة البشرية وللحب الذي انحاز له المتصوفون المسلمون والرهبان المسيحيون. فنحن لانكاد نميز في القرية بين الرهبان المسيحيين الفرنسيين وبين الفلاحين الجزائريين المسلمين, الرهبان يخاطبون أهل القرية بلغتهم, ويشاركونهم الاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم العائلية. وأهل القرية يعاملونهم بالمثل. يترددون علي الدير, ويلتمسون لمرضاهم العلاج لدي الطبيب الراهب, ويحصلون علي الدواء. بل لقد ذهب بعض الإرهابيين إلي الدير ومعهم جريح لهم أصيب في مواجهة مع الجنود الجزائريين, فجاءوا به يطلبون أن يعالج في الدير. فلم يسمح لهم الرهبان بالبقاء, لكنهم لم يبخلوا عليهم بالأدوية التي يحتاجون إليها. وفي الحوار الذي دار بين المجموعة الإرهابية والرهبان رأينا هؤلاء يذكرون زعيم المجموعة بالآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عما بين المسلمين والمسيحيين من مودة ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لايستكبرون. وعندما أشتد خطر الإرهابيين وأصبح الرهبان مهددين بصورة مؤكدة واجتمعوا ليختاروا بين العودة إلي فرنسا والبقاء في الدير اختاروا البقاء. وعندما عرض عليهم الجيش الجزائري أن يتولي حراسة الدير رفضوا, لأنهم لايعدون أنفسهم أعداء لأحد, حتي للإرهابيين. أنهم فقط يرفضون العنف, ولايفرون في مواجهة الإرهاب, لأن الفرار يتعارض مع إيمانهم بالأخوة البشرية والتزامهم بخدمة المحتاجين لهم. وهكذا واجهوا العنف المسلح غير مسلحين إلا بما يؤمنون به, وهكذا سيقوا إلي الموت الذي يستطيع البعض أن يعتبره دليلا علي حتمية الصدام, خاصة ونحن نري مايحدث في فلسطينالمحتلة وفي العراق وأفغانستان, ونستطيع نحن أن نعتبره دليلا علي حتمية التفاهم والتآخي والحب, لأنها شرط وجود. لا حياه ولا حضارة بدونها. فلابد من مقاومة العنف وإلحاق الهزيمة به. وإلا فمن هو الذي انتصر في هذه المذبحة؟ الإرهابيون القتلة, أم الرهبان الضحايا؟ لاشك أن الرهبان الضحايا هم الأبطال الشهداء المنتصرون! بقي أن أقول لكم إن روعة هذا الفيلم لاتتمثل في القيم النبيلة التي يدافع عنها فحسب, وإنما تتمثل أيضا في تصويره الرائع لهذه القيم التي لم تكن خطبا منبرية, وإنما كانت قصة, ومشاهد, وحوارا, وتصويرا, وموسيقي وكانت صدقا في التمثيل وإخلاصا في الآداء بدا معه الفيلم وكأنه هو ماحدث. أتمني أن يعرض هذا الفيلم في مصر. ويوم الأربعاء القادم نقرأ معا ماكتبه المخرج المسرحي الكبير أحمد زكي حول الوضع الراهن للمسرح المصري