واحدة من إشكاليات العقل المصري والعربي الراهن عند مواجهة أي أزمة أو حادثة أو مناقشة أي قضية, الاستغراق الطويل في الجدل حول الشكليات والتفصيلات لأسباب ودوافع مختلفة. والابتعاد عن النظرة الكلية وجوهر القضية وكيفية التعامل السليم والحاسم والمباشر معها, وإذا اخذنا كمثال ما يحدث علي الساحة المصرية اخيرا من احداث وقضايا نجد اننا تعاملنا معها بنفس الطريقة الي ان جاء الرئيس مبارك في خطابه في عيد العلم وفي عيد الشرطة وتعامل بطريقة مباشرة وحاسمة مع هذه الاحداث والقضايا. فمثلا اخذنا الوقت الطويل ومازلنا في الحديث عن الشخصيات التي ربما تدخل الانتخابات الرئاسية في عام2011 ولم نعط نفس الوقت والاهتمام للتفكير في المستقبل وصورة المجتمع والدولة المدنية الحديثة التي نريدها لأبنائنا واحفادنا, كما جاء في خطاب الرئيس الذي رحب بكل من يستطيع العطاء لبلده واكد اننا ننشد مجتمعا متطورا ودولة مدنية حديثة لا مكان فيها للتمييز والتطرف. وعندما حدث ما حدث في نجع حمادي اخذنا الوقت الطويل ومازلنا حول طبيعة الحادث وهل هو اجرامي انتقامي ام طائفي مع ان الطبيعة المزدوجة للحدث واضحة فهو حادث اجرامي اخذ بعدا طائفيا نتيجة المناخ السائد المتصاعد الذي لا يمكن انكاره,وعندما تعرض الرئيس مبارك لهذا الحدث في خطابه لم يتوقف امام الشكل بل واجه جوهر القضية وحلل ابعادها وخطورتها علي وحدة الامة ومستقبل الوطن ودعا الي وقفة جادة وصريحة مع النفس والي خطاب ديني مستنير يدعمه النظام التعليمي والإعلام والمثقفون يؤكد قيم المواطنة وان الدين لله والوطن للجميع وينشر الوعي بأن الدين هو امر بين الإنسان وربه وان المصريين بمسلميهم واقباطهم شركاء وطن واحد. والسؤال الآن كيف يتحقق كل هذا ونحن نعيش ثقافة مجتمعية منغلقة وطرق تفكير تقليدية سائدة تأخرنا في معالجتها كثيرا, فأصبحت تقف سدا منيعا امام كل تطوير وتحديث واصبحت تربة المجتمع مهيأة للطائفية المقيتة, والآن علينا ان ندرك ان الحاجة ماسة الي مواجهة قانونية حاسمة الي تفعيل دور المؤسسات الدينية والتعليمية والاعلام في ترسيخ قيم المواطنة ووحدة الأمة ومعالجة اسباب التوتر التي نعرفها جميعا, وفي الوقت نفسه نحن بحاجة ماسة الي تغيير جذري في العقليات يسمح بوجود جو ملائم لإعادة النظر في كل جوانب حياتنا أي وجود استعداد نفسي وميل لقبول التغيير والإبداع, جو جديد ينشأ ويزدهر فيه طفل وشاب مصري يدرك تدريجيا قيمة شخصيته وقيمة حريته في التفكير والتعبير وقيمة عنصر الزمن والإخلاص في العمل وقيمة الانسان كإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه وقيمة الوطن والولاء له فوق كل اعتبار جو جديد يعمل علي تهيئة بيئة فكرية تسمح للعبقرية المصرية ألا تهاجر من الوطن بحثا عن ظروف افضل. ان المجتمعات المتقدمة لكي تحقق هذا التقدم الطموح عملت وخططت للتغير الجذري في العقليات وأوجدت الجو والاستعداد النفسي الملائم للإبداع فحققت ما تريد, اننا نعرف جميعا ان الثورة الصناعية التي حدثت في انجلترا ثم ظهرت في أوروبا وامريكا وبعد ذلك في اليابان لم تحدث إلا بعد ان مهدت لها ثورات ايديولوجية اهدت لها التغيير المنشود في العقليات والاستعداد النفسي لقبول هذا التغيير. هذه الثورات سميت بالثلاثR النهضةrenaissance التي شجعت علي اعادة النظر في تقييم فلسفة اداب وفنون القدماء والاصلاح الدينيreformation والذي نادي بإعادة النظر في سلطة رجال الدين علي الضمائر واحتكارهم تفسير الكتب المقدسة والثورة الفرنسيةRevolution والتي نادت بإعادة النظر في تقييم سلطة الملوك والارستقراطية وحق الشعوب. إنها حقيقة قائمة يجب ان نقتنع بها. ان التحدي الحقيقي الذي يواجهنا ليس فقط السيطرة علي الاحداث الغريبة علي مجتمعنا بل ان تتكاتف كل الاجهزة والمؤسسات والافراد برؤية واضحة لتغيير العقليات. المزيد من مقالات د. القس مكرم نجيب