من عجب أن يشهد العام الذي نودعه هذا الشهر رحيل نخبة من هؤلاء المصلحين الجدد, الذين كرسوا حياتهم لفكرة النهضة, علمية وفكرية وتربوية وثقافية وأدبية ودينية, فكان علينا أن نودعهم ونحن نكفكف الدمع لنستطيع قراءة رسائلهم التي دونوها بأحبار أعمارهم. لم يكن الدكتور محمد عابد الجابري, الذي درس الفلسفة في جامعة دمشق وبدأ حياته العملية أستاذا لها في جامعة محمد الخامس في عاصمة بلاده الرباط, مجرد مدرس لعلم قديم. إذ لم تعد الفلسفة بعد ارتباطها بالعلم قديمة, كما لم يكن هو حين اختار الشرق مجاله للتعلم والتعليم مجرد ناقل لذلك العلم, لقد سعي الجابري في مشاريعه التي واكبت مسيرته العلمية والعملية في استفهام الماضي, وسؤاله بجدية بالغة من أجل بناء واع للحاضر, وفهم جدير بالمستقبل, وقد وضع يده علي مكامن التخلف في التعليم, وهو ما ينطبق جله علي التعليم في بلادنا العربية, حتي وإن اختار المغرب نموذجا. من هنا أكد الجابري ضرورة التعريب في مواجهة الفرنسية, وتوحيد التعليم في مواجهة المدارس الخاصة للطبقات القادرة وتعميمه في مجابهة الأمية التي تأكل الأخضر واليابس. وقد عد الجابري تراثنا الإسلامي تراثا حيا, فمنذ ثلاثة عقود, وفي كتابه نحن التراث يقوم بتحليل ذلك الإرث الفلسفي كمقدمة لمشروعه الأكبر نقد العقل العربي, محاولا الإجابة عن مدي الاستفادة من استفهام التراث كتجربة حية, حين يخرج من أوراق الفارابي وسطور ابن سينا ومقولات ابن رشد ومقدمة ابن خلدون ليعيش بيننا, ولتظهر العقلانية أداة ومنهجا وفكرا في التعامل مع ذلك الإرث, بدلا من وأده في أضابير مختومة وحفظه في أوراق بالية وإعادة نشره في نسخ محدودة فقط لكي نقول إننا نحافظ علي تراثنا. ولعل مشروع الجابري الأخير لفهم القرآن الكريم فهما معاصرا هو زبدة أفكاره, في خطاب جديد يحاور العلوم النقلية التي أسسها القدماء لكي تصبح أيقونات تستمد قداسة من النص القرآني, وهكذا يعيد قراءة علوم القرآن والحديث والسيرة والتفسير والفقه لكي يقول لنا رسالته الأخيرة بإعمال العقل دائما لكي نستكمل ما بدأه النهضويون الأوائل. بعد أن اختار دراسة السياسي عند أبي الحسن الماوردي مشروعا لنيل درجة الدكتوراه اتفق المفكر الكويتي الراحل الدكتور أحمد البغدادي مع ما جاء به الماوردي علي أن العقل أساس الفضائل, وينبوع الآداب, وأساس كل علم ومعرفة, لأن الله سبحانه وتعالي جعل من العقل للدين أصلا, وللدنيا عمادا, ولم يكن التكليف واجبا إلا باكتماله وكماله, لأن الشرع لايرد بما يمنع منه العقل, والعقل لايتبع فيما يمنع الشرع. ولم يكن البغدادي ذلك المفكر الساكن في برجه العاجي, بل رأيناه يدعو إلي الحوار, كما أسس مع ثلة من رفاقه في الكويت مركز الحوار الذي تبني الليبرالية دربا للتغيير. علي أن حضور البغدادي الإعلامي عبر الدراسات الفكرية, والمقالات الصحفية والمناظرات التليفزيونية والندوات هو ما جعله يخوض معارك مع من اختلفوا معه, وخاصة بين المتشددين الذين أثارتهم دعوته لشجاعة إعمال العقل واستفتائه من أجل قيم التنوير ومشاريع النهضة وثقافة العقلانية. الوعي كائن أسطوري يحتاج إلي من يحركه إذا سكن تحت رماد التخلف مثلما يحتاج إلي من يبعثه إذا اختفي في ظلام الجهل. في كل عصر ننتظر من يقوم بهذا الدور فيرسل الوعي عاليا ليحلق بجناحيه, وقليلون في مسيرة نهضتنا العربية من امتلكوا تلك العصا السحرية التي تملك تلك القدرة علي استثارة الوعي, وكان في طليعتهم بالكويت الشاعر العربي أحمد السقاف, وهي صفة لانطلقها جزافا, بل نجده الأجدر بها وهو الذي وهب نصف ديوانه لأمته العربية, وقضاياها القومية, وفي طليعتها قضية فلسطين. منذ بدأت الدراسات الغربية للتراث الإسلامي( الاستشراق) لغة ودينا ونصوصا وأعلاما وفكرا والمؤرخون والمفكرون والفلاسفة في الجامعات الأوروبية والأمريكية لايستمعون إلا لصوتهم, ولايؤمنون إلا بنهجهم, ولايقرأون إلا بلسانهم. من هنا جاءت رسالة المفكر الجزائري الراحل محمد أركون لتبدأ عهدا جديدا من الدراسات الألسنية للقرآن الكريم في أعرق جامعة فرنسية, السوربون, التي نال منها درجة الدكتوراه في الفلسفة, وانخرط في سلكها الجامعي أستاذا لمادته منذ ثلاثة عقود. لم يكن دور الفلسفة استحضار آراء سلفت وحسب, وإنما كان وسيظل دورها استقراء المستقبل, وهو ما اتضح في أعمال راحل آخر هو الفيلسوف العربي الكبير فؤاد زكريا. لقد نادي الدكتور فؤاد زكريا بضرورة إحياء التفكير العلمي وعده موضوع الساعة في العالم العربي منذ ثلاثين سنة, ونحن اليوم حين نتأمل تراثنا فيما يخص فضاءنا العلمي نشعر بأسي كبير لأننا وقفنا نتفرج علي الآخرين وهم يثبون, ونحن مقيدو الخطي في خرافات بالية, وأفكار منهزمة. لقد استقرأ فؤاد زكريا بما كنا سنصل إليه اليوم من ردة وترد وهو قدم لنا في اجتهاداته طرائق للتفكير جناحاها العقل والحرية. والحديث يطول عن هؤلاء الأعلام الذين ودعناهم, ومعهم كثيرون أسهموا بالمثل في محاولات النهضة, فنحن لاننسي محاولات الدكتور نصر حامد أبو زيد في استنطاق التراث الذي كلفه الكثير, ولكنه استفاد من محنته ليصبح صوتا عربيا إسلاميا جهوريا في منفاه الهولندي. كما لاننسي العم الطاهر وطار, نصير اللغة العربية, التي لم تشكل اللغة وجدانه العروبي وحسب, بل ألبست شخصياته الروائية في أعماله الشهيرة روحا محلية خالصة, وذاتا عروبية قوية, أثرت خيالنا الأدبي علي مدي عقود, وعلينا بالمثل أن نتذكر الدكتور غازي القصيبي الذي وضع ثقافته في خدمة أمته, ودافع عن حرية أفكاره, فكان نموذجا مضيئا لأبناء الجزيرة العربية في العصر الحديث كمبدع عربي قومي. إن استمرار الأمل يعني أن نحمل المشاعل التي تركها هؤلاء, عالية حتي لاتخمد. لانريد لمشروع محمد عابد الجابري في استفهام الماضي أن يتعثر, ولانتمني لاستفتاء العقل الذي شغل أحمد البغدادي أن نشغل عنه, ولايصلح أن يتوقف استنهاض الوعي العربي مع رحيل الشاعر أحمد السقاف, ويجب ألا يتوقف استجلاء الدين بغياب محمد أركون, أو يتعطل استقراء المستقبل بمضي فؤاد زكريا, لتكن رسالة استنطاق التراث لنصر حامد أبو زيد حية, لتكن دعوة الطاهر وطار للحفاظ علي لغة هويتنا قائمة. ولتشعل ثقافتنا المدينة لإنجازات غازي القصيي مشعلا وراء آخر ليستمر الركب.