طالعت في صحيفة الأهرام يوم الجمعة19 نوفمبر2010 الصفحة23 مقالا للكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة تحت عنوان لماذا كان البيع.. ولماذا كان الشراء, تناول سيادته فيه قضية بيع ثم شراء شركة عمر أفندي, ثم انتقل منها إلي ما وصفه اتخاذ قرار باغلاق30 فرعا لشركة النصر للتصدير والاستيراد في القارة الأفريقية, ورغم ما لدي من تحفظات حول صحة ما تضمنه المقال بشأن بيع شركة النصر, سأتطرق إليها في السطور القادمة, إلا أن ما استفزني بل وهالني ما وصفه مقال الكاتب الكبير فاروق جويدة خروج مصر من افريقيا, الأمر الذي دفعني لكتابة هذه السطور لتوضيح وشرح الدور المصري الذي لم يغب يوما عن القارة الافريقية وإن اختلفت الأدوات والظروف. في البداية أود الإشارة إلي ما نلاحظه دائما نحن المعنيين بالعمل الأفريقي, أن كثيرا من الكتاب والمفكرين, مع كل الاحترام لمقاماتهم وآرائهم, حين يتناولون الدور المصري في القارة الافريقية, تنصب أطروحاتهم منذ الثمانينيات علي فكرتين اساسيتين: الأولي, هي التباكي علي دور مصر الذي كان متعاظما بالقارة في الخمسينيات والستينيات خلال دعم مصر لحركات التحرر الوطني في القارة, ثم تلاشي ولم يعد له وجود, والثانية, هي اتهام مصر دوما بالانسحاب من القارة الافريقية دون تقديم أسانيد علي ذلك, ولا أخفي سرا إذا قلت إن التركيز المستمر في الاعلام علي هاتين الفكرتين يصيب العاملين في الحقل الافريقي بكثير من الدهشة والقلق أيضا, إذ نتوقع دوما من رموز الاعلام والفكر المصرية المتابعة الجيدة والمستمرة لجهود مصر وتحركاتها علي الساحة الافريقية باعتبارها احدي أهم دوائر عمل السياسية الخارجية المصرية, لكننا لا نجد للأسف دليلا علي جودة هذه المتابعة فيما نراه دوما من مقالات وكتابات صحفية. وأود انتهاز هذه المناسبة للإشارة إلي نهج التباكي المستمر علي مكانة مصر في الخمسينيات والستينيات خلال دعمها لحركات التحرر الوطني في القارة, والذي أصبح وكأنه رياضة صحفية شبه يومية, فمن المعروف أن العلاقات الدولية تمر بمراحل تتوافق مع ظروف سياسية مواتية في مرحلة ما, لا تكون صالحة دوما للتطبيق في جميع الأوقات, فقد كانت مصر في الخمسينيات والستينيات تقودها حكومة ثورية تقوم فلسفتها علي التحرر من الاستعمار, وهي فلسفة لقيت تربة مثالية في القارة الأفريقية التي كانت معظم دولها ترزح تحت نير الاستعمار وتسعي للخلاص منه, فكانت مصر ثورة يوليو آنذاك مثلا أعلي, وملاذا حاضنا لجميع حركات التحرر الوطني الأفريقية وقادتها وعائلاتها, ومصدرا لتوفير كل أشكال الدعم الممكنة لهذه الحركات, سواء الدعم السياسي أو المالي أو اللوجستي بتقديم الأسلحة والذخائر, أو الدعم الفني بتوفير التدريب العسكري لعناصر حركات المقاومة, أو الدعم الاعلامي من خلال البث الإذاعي الموجه من القاهرة إلي مختلف البلدان الأفريقية بلغاتها المحلية, وهو ما ترك لمصر رصيدا هائلا لدي شعوب هذه الدول, تتجلي شواهده حتي اليوم في مختلف عواصم الدول الافريقية التي لا تكاد تخلو من شوارع رئيسية تحمل اسم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر, أو مدن مصرية هامة مثل القاهرة والسويس. أما الآن, وقد حصلت جميع الدول الافريقية علي استقلالها واختلفت توجهاتها من البحث عن الاستقلال إلي البحث عن التنمية, فلم يعد واردا استمرار هذا الدور المصري الذي كان غالبا في الخمسينيات والستينيات, حيث استمر الدور المصري في القاهرة ولكن بأدوات جديدة ومعطيات جديدة تلبي الاحتياجات الجديدة للقارة, تركزت علي تقديم الدعم الفني والعلمي لخدمة عملية التنمية البشرية بالقارة في مختلف المجالات, فربما لا يعلم كثيرون أن آلافا من الأطباء وأساتذة الجامعات المصريين والفنيين المصريين وبعثات الأزهر الشريف والكنيسة القبطية ينتشرون في شتي ربوع القارة الأفريقية, منذ استقلال هذه الدول حتي الآن, لتقديم علمهم وخبرتهم العملية لشعوب القارة, بل وأنشأت مصر عام1980 لهذا الغرض الصندوق المصري للتعاون الفني مع افريقيا كاحدي إدارات وزارة الخارجية, ليكون الجهة المنوط بها تنسيق تقديم مختلف اشكال الدعم الفني والإنساني واللوجستي للدول الافريقية, بما يتضمن تنظيم دورات تدريبية للمتدربين الأفارقة في مختلف المجالات كالطب والتمريض والشرطة والصحافة والإعلام والزراعة والري وغيرها, وتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية والدوائية في حالات الكوارث الإنسانية, بالتنسيق مع الجهات المصرية ذات الصلة, سواء بشكل ثنائي أو بتعبئة موارد إضافية من المانحين الدوليين في إطار مبادرات للتعاون الثلاثي, مثل الوكالة اليابانية للتعاون الدولي( الجايكا) ووكالة المعونة النرويجية( النوراد), ومنظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية( اليونيدو), وبنك التنمية الأفريقي وغيرها, حيث وقع الصندوق حتي الآن61 اتفاقية للتعاون الثنائي, و31 اتفاقية للتعاون الثلاثي مع جهات مانحة. هذا ولا يقتصر الدور المصري في القارة الافريقية عل الجانب الفني والإنساني فحسب, بل يمتد إلي الدور الروحي والعقدي, إذ يتواجد بالدول الأفريقية بشكل دائم مايزيد علي640 مبعوثا من الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف لتعليم المسلمين الأفارقة اللغة العربية ومبادئ الإسلام الحنيف, فضلا عن سفر مئات القراء والوعاظ من الأزهر الشريف في مهمات قصيرة تلبية لدعوات يتلقونها من المؤسسات الإسلامية الافريقية الحكومية والأهلية لإحياء شهر رمضان المعظم من كل عام, وذلك في ضوء ثقة هذه الدول ومسلميها في وسطية مؤسسة الأزهر, حيث تعتبر مصر الدولة الوحيدة من شمال افريقيا التي توفد أئمة ووعاظا بشكل منتظم إلي القارة الافريقية. كما أن لمصر دورا رائدا في مجال السلم والأمن بالقارة الأفريقية, من خلال ما تقدمه من دورات تدريبية للعناصر العسكرية والشرطية والقضائية الأفريقية, بالتنسيق بين الصندوق المصري للتعاون الفني مع افريقيا ووزارات الدفاع والداخلية والعدل, إلي جانب المؤتمرات والاجتماعات والندوات الدورية التي ينظمها مركز القاهرة الاقليمي للتدريب علي تسوية المنازعات وحفظ السلام في افريقيا الذي تستضيفه القاهرة, ويشارك فيها خبراء ومتخصصون في المجالات العسكرية والقضائية والشرطية والسياسية من مصر والدول الافريقية إلي جانب خبراء ومسئولين أمميين وعالمين في المجالات ذات الصلة. واتصالا بذلك, وفي ضوء السمعة للانضباط العسكري والشرطي المصري علي مستوي القارة, أصبحت مصر الدولة السادسة عالميا من حيث المشاركة في بعثات حفظ السلام التي تقود الأممالمتحدة, وغالبيتها في القارة الافريقية, كما تحتل مصر الترتيب الأول بين الدول المساهمة بقوات في عمليات لحفظ السلام في العالم العربي وفي إطار منظمة الفرانكفونية, والمركز الثاني في القارة الافريقية بعد نيجيريا, حيث تشارك مصر في جميع بعثات حفظ السلام الثماني التي تقودها الأممالمتحدة في القارة الافريقية( في المغرب/ الكونجو الديمقراطية/ ليبيريا/ جنوب السودان/ دارفور/ تشاد/ افريقيا الوسطي/ ساحل العاج), بما يناهز5500 عنصر عسكري وشرطي مصري, علما بأن الدول الافريقية تؤكد دوما اعجابها واطمئنانها لما تتمتع به قوات حفظ السلام المصرية من انضباط والتزام بمحددات دورها, مقارنة بمآخذ مهنية وسلوكية يتم تسجيلها علي قوات وعناصر حفظ السلام من دول أخري افريقية وغير افريقية تمتلئ بها صفحات الاعلام الأفريقي والعالمي. ولم يتوقف الدور المصري في القارة الأفريقية عند هذا الحد, إذ توجد العديد من المشروعات الزراعية والطبية المشتركة التي أقامتها مصر في القارة الأفريقية مع تلك الدول تقوم بالأساس علي الخبرة المصرية,, لكن ما يدهشنا دوما هو أننا لم نقرأ يوما أن كاتبا أو صحفيا مصريا قام بزيارة الي المزرعة المصرية الزامبية المشتركة في زامبيا, أو المزرعة المصرية النيجيرية المشتركة في زامبيا, أو المزرعة المصرية النيجرية المشتركة في النيجر, أو المزرعة المصرية التنزانية المشتركة في زنزبار, كما لم نلمس في الإعلام المصري إشارات تذكر الي المراكز الطبية المصرية التي تعمل منذ سنوات بأطباء مصريين وأجهزة طبية مصرية في أوغندا مثلا أو رواندا أو الكاميرون, أو فرع جامعة الإسكندرية الجاري إنشاؤه في تشاد, أو جامعة السلام في بوروندي الجاري إنشاؤها بجهد مصري خالص, أو المزرعة المصرية لتسمين الماشية الجاري إنشاؤها في إثيوبيا علي مساحة95 ألف فدان باستثمار يتجاوز100 مليون جنيه, أو المجزر المصري الجاري إنشاؤه في أوغندا, وهي جميعها جهود مصرية متواصلة لتوثيق العلاقات مع الدول الأفريقية. وغدا نستكمل الجزء الثاني من المقال