لفت نظري مؤخرا خبر قصير يقول إن المسيحيين في العراق يتجهون بكثافة إلي اقليم كردستان الاكثر أمنا كمحطة انتقالية للخروج من العراق إلي بلد آخر. مسيحيو العراق الآن في رحلة البحث عن مأوي جديد بعد أن فقدوا الأمن في بلدهم وأصل وجودهم. الخبر في حد ذاته دليل علي المدي المتدهور الذي وصل إليه العراق من الناحيتين الأمنية والسياسية في ظل وجود أجنبي كثيف قلب الأمور كلها رأسا علي عقب وما زالت الفوضي هي العنوان الأبرز في أحوال العراق والعراقيين. وكلنا يذكر ما تعرضت له إحدي الكنائس الكاثوليكية المسماة كنيسة سيدة النجاة في بغداد في نهاية أكتوبر الماضي, حيث تعرضت لهجوم من تنظيم تابع للقاعدة أسفر عن مقتل40 مسيحيا كانوا يصلون فيها وإصابة عشرات آخرين, والتبرير الذي أعلنه آنذاك تنظيم دولة العراق الاسلامية التابع للقاعدة في بلاد الرافدين للهجوم أنه بهدف توجيه رسالة إلي الكنيسة المصرية لكي تفرج عن السيدتين وفاء قسطنطين وكاميليا شحاته, وإن لم يحدث الافراج في غضون48 ساعة فسوف يتم استهداف المصالح الكنسية المصرية في الداخل وفي الخارج. وكلنا يذكر أيضا كيف تفاعلت الدولة المصرية بكل مؤسساتها الرسمية والمدنية مع هذا البيان القاعدي غير المسئول. وكلنا يذكر أيضا أن استنفار اجهزة الدولة لحماية الكنائس ورجال الدين المسيحي في مصر لم يكن باعتبارهم أقباطا أو مجموعة لهم وضع خاص, ولكن لأنهم مواطنون يتمتعون بكامل حقوق المواطنة في الحماية والأمان, شأن كل من يعيش علي أرض مصر ويحمل هويتها وجنسيتها. وحينها قيل إنه الشر الذي يحمل الخير, أو الشر الذي يكشف المعدن الأصيل للدولة المصرية التي تحمي كل أبنائها وترعاهم بلا تمييز. لكن يبدو أن البعض من أبناء الوطن نسي هذه الدلالات, أو تناساها عامدا متعمدا. هذا البعض يتعامل مع الدولة المصرية باعتبارها كيانا هلاميا لا وجود له, أو أنها مجرد فكرة غامضة في الفضاء البعيد, وليس إطارا جامعا له ضوابطه الدستورية والقانونية التي يجب أن تطبق عن الجميع دون استثناء. صحيح قد لا يرضي البعض من المصريين علي قانون بعينه يراه ظالما ويجب تغييره, وربما تمتد حالة عدم الرضاء إلي مادة أو حتي جملة مواد واردة في الدستور باعتبارها ضد حقوق الانسان أو حتي ضد المواطنة نفسها. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو كيف يتم التعامل مع هذه الأسس القانونية والدستورية التي ليست محل رضاء لجماعة, كبيرة كانت أو صغيرة, هل يتم ذلك بالعنف وقنابل المولوتوف وتوتير الأوضاع والمطالبة بقوة أجنبية تتدخل في شئون الوطن, وتنشئ وصاية علي كل من فيه, أم يتم بالوسائل القانونية والمدنية المتحضرة التي لا خلاف عليها؟ هل يكون ذلك بجمع مجموعة من الناس وعبر وسائل تنظيمية غير شرعية مع توظيف المشاعر الدينية في غير موضعها والذهاب بهم إلي مؤسسات الدولة لغرض تحطيمها, متصورين أن ذلك سوف يفرض واقعا جديدا يخيف الدولة ومؤسساتها؟ وهل يتم الحصول علي الحقوق إن كانت هناك حقوق عبر قوانين الغاب والبلطجة الجماعية, أم من خلال اللجوء إلي المؤسسات الشرعية والالتزام بالقانون والضوابط المعمول بها التي لا تفرق بين مصري وآخر بسبب الدين أو الجهة؟ أم يتم من خلال ممارسة ضغوط علي الجهات القانونية التنفيذية للإفراج دون سند من قانون عن المتسببين في عنف ممجوج؟ هذه الأسئلة من وجهة نظري هي مربط الفرس فيما يواجه مصر الآن من تحديات جمة يفرضها بعض المصريين متصورين أن الضرب بعرض الحائط كل أسس الدولة المدنية ذات القانون والدستور كفيل بأن يحقق لهم أغراضهم في السيطرة والاستئساد علي باقي الجماعة الوطنية, أو متصورين أن تعديل القانون لا يكون إلا بالتحايل عليه وبفرض أمر واقع غير شرعي, وليشرب الآخرون من البحر. بعض التفسيرات التي تقال في أحداث كالتي شهدتها منطقة العمرانية الأسبوع الماضي( حيث قام البعض بتغيير بناء من مجرد مجمع خدمات إلي كنيسة دون سند من قانون, وحاولوا استكمال البناء بالقوة وتجمعوا بدون تصريح, واعتدوا علي مبني المحافظة وأتلفوا ممتلكات خاصة, وقطعوا الطريق العام ورددوا شعارات ضد السيادة الوطنية وطالبوا باستجلاب احتلال لبلدهم) أن هناك اضطهادا وتمييزا في بناء الكنائس وفي ترميمها, وأن إصدار قانون موحد لدور العبادة كفيل بأن يحل المشكلة, وأن هناك تباطؤا متعمدا في إصدار هذا القانون, وأن المشكلة حين تدار أمنيا وحسب فإنها سوف تسبب المشكلات تلو المشكلات. أصحاب هذه التفسيرات وكما قال ذلك أحد القيادات القبطية في برنامج أذاعه تليفزيون بي بي سي, أن التحايل علي القانون كان الوسيلة الوحيدة لبناء168 كنيسة في السنوات القليلة الماضية في مناطق ومحافظات مختلفة. ولكنهم عجبا في الوقت نفسه يطالبون بأن لا يتدخل الأمن وأن يتم الافراج عن المتسببين في تخريب الممتلكات العامة والخاصة معا بعيدا عن المحاسبة القانونية. مثل هذه التوليفة من المبررات والتفسيرات المتضاربة تضر من وجهة نظري القضية الأم, لأنها تنكر جملة وتفصيلا كل الجهود التي بذلت في السنوات الماضية لإعادة تكييف قضية ترميم الكنائس وبنائها من قضية سيادية إلي قضية محلية, أي بيد السلطات المحلية وفقا للقانون العام المنظم للبناء, والا كيف تم السماح ببناء أكثر من150 مجمعا للخدمات. كما أنها تنكر أيضا علي الجماعة المصرية دورها في النضال السلمي القانوني وتبلور حلا يتعارض مع القانون والدستور, والأنكي من ذلك أنها تصور التحايل علي القانون مصحوبا بالعنف المادي والمعنوي باعتباره الحل الوحيد, وأن استبعاد الأمن وإبعاده تماما عن وقف التجاوزات هو المطلب الوحيد ولا بديل غيره. وفي كل ذلك أخطاء جسيمة في حق الوطن وفي حق الدين أيضا. إذ كيف يمكن بناء دور للعبادة بلا أساس شرعي, وكيف يمكن للأمن أن يقف بلا حراك وهناك اعتداء علي أحد رموز الدولة ممثلا في مبني محافظة الجيزة, فضلا عن ممتلكات الأفراد التي يحميها الدستور. إن وجود مشكلة ما لا يعني نهاية الكون, ولكنه يعني بداية مسيرة من النضال السلمي وفقا لما يرتضيه المجتمع وتنظمه الدولة. فالخروج علي الدولة وكما يعلم الجميع يعني بداية انهيار الأمن وتدمير الذات وضياع الحقوق, وحينها لن ينفع أمريكيون أو أوربيون أو أي قوة استعمارية اخري. النافع الوحيد هو الوطن الآمن والمستقر والشريك في الوطن وليس غيره. وإذا تأملنا الخبر المتصدر هذا المقال, ربما يفيد في أن يعيد البعض منا التفكير في تلك الأوهام التي تسربت إليهم, وتصور لهم أن الولاياتالمتحدة قد تغزو مصر من أجل خاطرهم, أو أنها سوف ترسل الأساطيل وتقطع الاتصالات, وتفرض العقوبات تلو العقوبات حتي تعيد تركيب مصر علي وجه آخر غير الذي ترتضيه الغالبية الكاسحة لمواطنيها. لقد غزت الولاياتالمتحدة بالفعل العراق لأسباب تتعلق بطموحاتها الإمبريالية وليس من أجل عيون الشعب العراقي, ولا من أجل المسيحيين فيه, ولا من أجل حقوق الإنسان, ذلك الشعار البائس الذي من فرط ما تعرض له من خداع أمريكي وأوروبي لم يعد له قيمة تذكر. ولننظر معا, هناك في ربوع العراق140 ألف جندي أمريكي وعدة آلاف آخرين من جنسيات مختلفة, بالاضافة إلي قوات الأمن العراقية نفسها, فهل استطاعو جميعا أن يقدموا الحماية الكافية للمسيحيين هناك؟, هل استطاعوا أن يؤمنوا لهم حياة كريمة؟, هل منحوهم فرصة الوجود داخل النظام السياسي الجديد؟ بالقطع لا, لم يحدث أي من ذلك, وأن ما حصل هو مزيد من الضغوط الحياتية والأمنية علي مسيحيي العراق, وإذا بهم جميعا أو لنقل غالبيتهم يفكرون ويخططون للرحيل من بلدهم الذي عاشوا فيه منذ فجر التاريخ. فهل يريد أحدكم أن يحدث في مصر ما حدث للمسيحيين في العراق؟, بالقطع لا. لكن لا هذه.. تحتاج إلي بصيرة وإلي حكمة وإلي فطنة.. وليس إلي مجرد كلام. تحتاج إلي التزام بالقانون وضوابطه, تحتاج إلي ثقافة اندماج في الوطن وليس ثقافة استعلاء علي الوطن, تحتاج إلي الانفتاح علي الآخر في الوطن وليس الانغلاق علي الذات, تحتاج إلي مراجعة النفس واستبعاد أوهام الانتصار بضغوط الخارج, وتحتاج أيضا رفض كل صور العنف المادي أو المعنوي. مصر في حاجة إلي جهود كل أبنائها, لا شك في ذلك, وبحاجة إلي حوار معمق بين العقلاء وأصحاب الوطنية الرفيعة, والمؤمنين بثقافة التعايش السلمي. فلا تخربوها و لا تدمروها.. ثم تصبحوا بعد ذلك من النادمين.