انتفض الحاضرون في مؤتمر صحفي عقدته دار الأوبرا في أحد مهرجاناتها المسرحية, عندما قال المخرج اللبناني المتقعر, إن آفة المسرح هي.. الجمهور, فالمخرج الجيد والمؤلف المبدع هو القادر علي إلغاء الجمهور ليستطيع أن يقدم فنا جيدا, فانبري الحاضرون الواحد تلو الآخر يستنكرون مقولة المخرج, الذي أراد أن يبهر جمهور الحاضرين بعمق ثقافته, فحصد لومهم وتقريعهم علي فوضوية طروحاته!, أفاض الحاضرون في أهمية الجمهور للعمل المسرحي فهو العنصر الذي لا تكتمل المسرحية إلا بوجوده, وهو أصل وجود المسرحية فلم يكتبها المؤلف ويخرجها المخرج ويمثلها الممثلون إلا للجمهور, بل إن المخرجين المحدثين مثل( برتولد برخت) رائد المسرح الملحمي, أشرك الجمهور في المسرحية, وحرص الفنانون في هذه المدرسة علي كسر الايهام الفني, حتي يظل الجمهور متيقظا, ولا يكتفي بدور سلبي في المشاهدة, والاقتناع بما يملي عليه, حتي أنه يشترك في كتابة نهاية المسرحية من وجهة نظره, فالجمهور هو.. البطل! وكنت أستشف المعني الذي يقصده المخرج, الذي ما أن يدافع عن وجهة نظره حتي يستفز من يرفضها باستنكار, لكن غرور وتعالي المخرج هو ما استفزني شخصيا, ففضلت الصمت وعدم الاشتراك في هذا العراك المفيد, فاعتقد أنه كان يقصد أن رغبات الجمهور في نوعية الفن يجب ألا تتحكم في رؤية الفنان, ليستطيع أن يقدم الجديد, ويبدع فنا مغايرا للسائد والمألوف, الذي سبق وأن نال اعجاب الجمهور, فالعمل وإن كان مضمون النجاح جماهيريا إلا أنه لا يعتبر اضافة فنية تستحق الاحترام, والفنان المخلص للجمهور فعلا, هو من يجتهد ليقدم لجمهوره ما لا يتوقعه, فيبهره وجدانيا, وعقليا إن استطاع! فآفة المسرح والفن عامة هو الترخص, بتقديم التوليفة المضمونة النجاح جماهيريا, التي تجذب جمهورا يبحث عن التسلية ومتعة الفرجة الوقتية, ثم ينضم العمل الفني الي ركام الأعمال الفنية, التي لا تدفع بالفن الي ذروة جديدة, لا يقدر علي كشفها إلا إمكانات الفنان الحقيقي, الذي يجمع بين فلسفة الروح, وعلم الجمال, وواقعية المنطق, وروح التاريخ.. حتي إن الفيلسوف الإيطالي الشهير( كروتشة) يري أن جوهر الكون أفكار مجردة, وقد تشمل الفكرة المجردة الوجود كله, وأساس الفن هو القدرة علي تكوين الصور الذهنية, ثم يعبر عنها الفنان في موضوعه الفني, فإن نجح في الوصول للفاعلية الفنية, استطاع أن يدنينا أكثر الي روح الكون, والجوهر الكلي الشامل المتمثل في الجزئيات, فالفنان المؤمن برسالته هذه لا يصح ولا يستطيع أن يبرر سطحية أعماله بأن.. الجمهور عايز كده! واقع الأمر أن المخرج المذكور أعلاه لم يكن يحقر الجمهور, بقدر ما يحقر من يستعمله, للهبوط بالقيمة الفنية متحججا بالإقبال الجماهيري, فهذا لا يعني أنه حظي بقبول الرأي العام, بل للأسف.. هناك من الفنانين مثلهم مثل السياسيين من يجد الجمهور واحتقاره معا, وهناك من يجد احترام الجمهور لكنه لا يجده حيث يجب أن يوجد في ساحات العرض, فمؤازرة الجمهور للسياسي مثلها مثل الفنان ليست متاحة بشكل تلقائي, أو ميكانيكي بالأحري, لأن تشكل الجمهور من الأمور المعقدة التي تتنوع فيها الأسباب السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية, فقد يقبل بجنون وأيضا ينصرف بعناد دون إمكان تحديد سبب مباشر ووحيد لهذه الوحشية! حتي أن رائد الفلسفة الألمانية( هيجل) رأي أن الرأي العام يجب أن يحترم, كما يجب بالقدر نفسه أن يحتقر!, فكل عمل يقوم به الفرد يهدف به الحصول علي قبول الرأي العام للجمهور الذي يخصه, في الوقت نفسه يجب ألا يجعل القيادة في يد الجمهور, فيتنازل عنها لجمهور لن يرحمه عندما يكتشف أنه كان ضحية غش فني أو سياسي أو.. أخلاقي علي العموم, عندما يكتشف أن الدعم والتضحية والحب التي منحها, لم يصنها من حصل عليها, فيتصرف الجمهور بوحشية من التجاهل والنسيان المميت للفنان, الي مقصلة( ماري انطوانيت) الشهيرة المميتة أيضا! لا يوجد من يتصدي لعمل جماهيري سواء كان فنانا أو قيادة سياسية أو دينية أو فكرية, إلا ويكون نجاحها مرتبطا بالاتفاق العام, والرضا السائد عما يطرحه من أفكار صالحة يقبلها العقل الرشيد, إلا أن قياس ذلك يمثل صعوبة قصوي لعلماء الاجتماع, لتعددية البنية الاجتماعية, شديدة التعقيد, التي تتطلب مقاييس متعددة المستويات, وتضع الزمن في الاعتبار, فتختلف باختلاف المستجدات الطارئة من زمن لآخر, بالإضافة لتنوع الرأي العام نفسه فربما يظهر الناس عكس ما يبطنون سلبا وإيجابا حفاظا علي مصالحهم, وأحيانا يظهرون رأيا انفعاليا نتيجة لحدث عاطفي سرعان ما يزول أثره كأنه لم يكن, حتي الرأي العام الذي يؤمن به الغالبية, ويظن الناس أنه مستحيل التحقيق, فينسونه أنفسهم, وأيضا من يرصدون توجهاتهم, إلا أنه يتفجر مع أول أمل في إحيائه, في مفاجآت تاريخية تدهش أصحابها قبل غيرهم, قد تنتهي نهاية سعيدة كالثورة الفرنسية التي تم تنظيمها حتي وصلوا لحكم شعبي ديمقراطي, أو نهاية تعيسة كنهاية النازية والفاشية وهي من أكثر تراجيديات الجمهور الواقعية وحشية! المجتمعات المستقرة هي القادرة علي رصد الرأي العام, من خلال الجمهور المنظم في أطر اجتماعية, وقنوات مؤسسية, لا تقتصر فقط علي الإعلامية العشوائية, ولكن كيانات اجتماعية تسمح بالمناقشات والتفسيرات العلمية العقلانية, التي ترشد المشاعر والانفعالات لما فيه مصلحة الجمهور, وعلي رأس هذه المؤسسات التعليمية منها, التي تدرب الناس من صغرهم علي استخدام عقولهم, وفرز ما يطرح عليهم, واخضاعه لمعيار عقلي, يستشف العواقب قبل حدوثها, حتي لا تدفع أثمانا باهظة, نتيجة فشل الخيارات الزائفة التي يقع فيها جمهور الفوضي بسهولة, فحين يظن الحريصون علي عدم تشكيله بتفكيك المؤسسات الاجتماعية التي تقوم بتكوينه وتحمل أهدافه وآماله وتضعها علي جدول الأعمال الاجتماعي انهم قادرون علي قيادة المجتمع بأسلوب أسلس مما يجب عليهم عند تنظيمه, فإن هذه الفوضي الجماعية تغري القيادات الجاهلة, باستقطاب أجزاء من هذا الجمهور, علي شكل طوائف دينية أو عرقية أو مذهبية, فيصبح الاقتتال دائرا بينهم علي هذا الجمهور, فتلهب المزايدات الدينية والشوفينية وأيضا الاباحية. قتال علي الجمهور المغيب يفرز بسهولة جمهورا وحشيا! الاقتتال علي الجمهور أدي لتبلور قيادات دينية مسيحية تجهر بالكراهية والانحياز السياسي من كنائس أساسها المتين يقوم علي المحبة حتي للأعداء فأشعلت البغض بين الأشقاء! وقيادات دينية مسلمة ليست أقل مزايدة علي الكراهية, وتغييب العقل, وهي تنتمي الي الإسلام حيث التفكير فريضة دينية, في فضاء واسع فضفاض يسمح لمذيعين يفتقرون لمقومات الظهور علي الناس من الأصل في إلقاء الأحكام العامة وتصفية الحسابات بلا وازع من ضمير أو كفاءة مشهودة, فكانوا السم وأولاد السم والسم جدهم, فمثل هؤلاء ليسوا المشكلة, بقدر أن المشكلة, أن تأثيرهم في جمهور الفوضي أمضي وأخطر, مما لو كان هذا الجمهور منظما في أنساق اجتماعية تربوية, ترعاه تلقائيا من الوقوع في أفخاخ منصوبة, لإبعاده عن فلسفة العصر الحضارية القائمة علي العلم والعقل والنقد والحوار, مما يوصله الي مصالحه الحقيقية, وطرق النضال المثلي, وهذا مما لا ترضي عنه الأطماع الاستعمارية, التي تزدهر أكثر وأكثر مع العولمة, واقتصاد السوق الدارويني, ولا القيادات الفاشلة التي لا كيان ولا شرعية لها إلا في مناخ الطائفية والشوفينية, وتحارب ليبقي هذا الجمهور مغيبا في الفن الهابط أو التافه أو مباريات كرة القدم, وكلما شاهدت هذا الجمهور في المباريات العديدة, أتذكر المخرج اللبناني المغرور ومقولته التي تحمل مغزي مهما أفسدها غروره, فالجمهور يمكن أن يكون آفة وحشية أو طاقة جبارة, وأتمني أن يقيض له الله من يوجهه الي ما يفيده وإن كان لا يحبه, كما فعل الرواد السابقون الذين عانوا لتنمية وتطوير وتنظيم الجمهور, ومازالت الذاكرة الوطنية تحتفظ لهم بصدق أفكارهم التي لا نستطيع أن نحدد إن كانت نافعة لأنها حقيقية, أو حقيقية لأنها نافعة! ما ينفع الناس الآن أن ينتظموا في دورة مجتمعية تشملهم جميعا, وتستوعب قدراتهم وتطورها, واعتقد أن ذلك معركة الإنسان منذ أن تكون المجتمع, ليتقي شر وحشية الجمهور الفوضوي أو الخامل, ومن أنجز خطوة في هذا المضمار سواء كان مفكرا أو سياسيا أو فنانا كسب التاريخ في صفه وضمن الخلود أبدا. المزيد من مقالات وفاء محمود