كان الولد الصغير يدفع بعصاه مؤخرة الحمار, أو يضربه بها علي ظهره مستهدفا عظامه, كان هذا المنظر يؤلمني فكنت أقول له كلما فعلها: كده حرام عليك. وكان الفتي يتوقف قليلا ثم يعاود الضرب بعد قليل, وفي الفترة التي يتوقف فيها كان يفعل شيئا مغايرا, يضع العصاه علي ظهر الحمار في منطقة العظم ثم يضغط بها بكلتا يديه بقوة, بهذه الطريقة لا يحدث صوتا, ربما يعتقد بأن الصوت هو الذي يؤلمني. كان الصمت يغلف كل شئ ما عدا صوت اهتزاز العربة بخشبها القديم المفكك, وصوت أقدام الحمار علي الأسفلت الساخن. وكنت أنظر الي المدينة الصغيرة فلا أري الا بيوتا قديمة طرزها تشبه بيوت الريف, وعلي مدي الطريق الطويل الذي قطعناه بالعربة لم أر أحدا, كان الوقت ظهرا وشمس سبتمبر في واحة سيوة لافحة. أخيرا وصلنا الي الفندق المطلوب, وجدته عبارة عن مبني من الطوب الدبش الذي يبنيه الأعراب, مكون من دور واحد, صاحبه رجل يدعي عم سنوسي, لم يكن رجلا كبيرا في السن لكني لما وجدت صاحبي يناديه هكذا فعلت مثله. بعد الترحاب قادنا الرجل الي غرفة نومنا التي كانت عبارة عن مرتبتين علي الأرض, مغطاة بملاءتين وعلي رأس كل مرتبة مخدة صغيرة. تناولنا الطعام الذي قدمه ثم خرجنا نتمشي في المدينة, قابلنا عم سليمان الذي يملك السيارة الكبيرة والذي كان علي موعد مع صاحبي لكي يكون مرافقنا في الرحلة, تركنا الرجل ساعتين ثم عاد, وفي هذه الفترة بدأت أتناول أول كوب شاي زردة علي قهوة في الميدان الرئيسي والوحيد في البلدة, يقدم هذا الشاي في أكواب صغيرة ويكون الشاي محلي ومضافا اليه النعناع. عندما عاد الينا عم سليمان اقترحنا الذهاب الي قرية سياحية تبعد عدة كيلو مترات عن وسط المدينة, وهناك كان ينتظرنا المشهد المذهل: بحيرة هائلة من الماء شديد الملوحة, يستخدم في علاج الأمراض الجلدية عن طريق الاستحمام فيها. بتعرفي علي الجرسون قادنا الي جلسة بعيدة نسبيا عن القرية السياحية, علي لسان يمتد قليلا داخل البحيرة. شربنا زجاجة من النبيذ حيث إنه كان الشئ الوحيد الموجود في المكان, علمت من جمال الجرسون أن عربة الخمور تأتي اليه كل أسبوع, وأن القرية كانت مليئة بالإجانب منذ قليل إلا أن الجميع رحلوا. أصر صاحبي علي أن أغني ونحن نشرب, كما حدد اسم الأغنية: مين عذبك, غنيت مقاطع منها علي مضض فمزاجي وقتها لم يكن به الحزن والأسي السائدان في الأغنية, كنت متشوقا بشدة لغناء أغنية لفيروز, أي شئ به خيال وخال من الأسي في الوقت نفسه, كنت أسمع أغنية نحنا والقمر جيران بداخلي في الوقت نفسه الذي أغني فيه أغنية لعبد الوهاب, كان عم سليمان السائق يجلس معنا كذلك جمال الجرسون وكونهما غرباء أولا, وغير متذوقين للفن ثانيا منعني من الاندماج في الحالة. في اليوم التالي وفي الصباح بعد الإفطار ركبنا في العربة الكارو الصغيرة ذاهبين إلي حمام الرمال, يقومون بحفر مكان للجسم في الرمال ويجلس الشخص فيه ثم يقومون بدفنه ماعدا الرأس حوالي ثلث ساعة بعد ذلك يلفونه في بطانية ويدخلونه الخيمة معدومة الهواء, تجلس بالداخل وتبدأ في التعرق. عندما كنت بداخل الرمال ظننت أن هذا هو الجزاء الأصعب, وأنني ما أن أصل إلي الخيمة فسينتهي الموقف والإحساس بالحرارة الشديدة والعرق الغزير. كنت واهما تماما, فبمجرد دخولي الخيمة حياني زميلي الذي كان قد سبقني. المفاجأة أني لم أستطع الرد عليه علي الاطلاق. حاولت إخراج الكلام من فمي فلم أستطع. لم يكن برئتي أوكسجين كاف حتي أستعمله في الكلام. ما كان موجودا كان يكفي بالكاد للتنفس, وبصعوبة بالغة. كنت في الحقيقة مستغربا ما يحدث لي. وما لبث الاستغراب أن تحول إلي خوف علي حياتي عندما انقضت بضع دقائق ولم تهدأ دقات قلبي المتسارعة. كان العرق لا يزال ينساب غزيرا وبلا توقف من كل أنحاء جسدي وأنا غير قادر علي فعل شئ. لا أستطيع الخروج من الخيمة وإلا أصبت بما لا تحمد عقباه, ولا أستطيع الاستمرار كثيرآ بداخل هذه الخيمة لأني أخاف فعلا أن أموت بداخلها. بعض الناس تبرد أجسامهم نسبيا بعد فترة حيث يبدأ العرق في الجفاف النسبي. هذا ما حدث لزميلي, لكن لم يحدث معي حيث إستمررت في التعرق إلي أن أصبحت بطانيتي رطبة للغاية وثقيلة. كنت أبحث بيدي داخل الخيمة عن أي قطعة قماش إضافية ولو صغيرة استعملها في مسح وجهي وخاصة عيني اللتين أصبحتا تؤلماني من كثرة العرق والأملاح. شاهدت سحلية تتحرك بداخل الخيمة الكبيرة, وبالرغم من ذعري من السحالي وكل الكائنات الصغيرة والسريعة لكنني لم أستطع فعل شئ, لم أكن قادرا علي القيام بأي مجهود علي الإطلاق. وكان قد انقضي ما يقرب من ثلث الساعة وأصبح خروجنا وشيكا, لم أكن مستعدا للخروج بهذه الحالة حتي لو كنت ملفوفا في بطانية لأنها مبتلة تماما ولن تقيني مما أنا خائف منه. أشرت الي زميلي أن يسعي لتخفيف درجة حرارة الخيمة تدريجيا وذلك بتوسيع فتحاتها حتي يجف عرقي قليلا وأتمكن من الخروج. ربما انقضت ربع ساعة أخري وأنا أمسح عرقي تارة بقطعة القماش المتسخة التي وجدتها وتارة بالبطانية الي أن أصبحت قادرا علي ارتداء ملابسي وفوقها البطانية قبل الخروج. ركبنا الكارو في طريقنا الي المنزل. وبالرغم من البطء الطبيعي للكارو, والشمس الحارقة فوق رؤوسنا, ولفي للبطانية فوق جسدي وحتي رأسي, لكنني كنت أحس بتيار هواء بارد يصل الي مسام جسدي كأني أسير بسيارة علي سرعة عالية وفي مناخ بارد فاتحا الشباك. بوصولنا إلي المنزل وجدت أكواب الليمون في انتظارنا وبعدها بربع ساعة أتي طبقان متوسطان من الشوربة بالليمون شربناهما وأكملنا النوم. في المساء أيقظانا للطعام فقمنا وكان الرمل الذي جف علي أجسادنا يتساقط علي الحصير بكثرة مع كل خطوة نخطوها. انضم إلينا جدد علي المائدة. وكان البرنامج العلاجي يقضي بعدم خروجنا من المنزل لثلاثة أيام هي مدة برنامج الدفن بالرمال, وعدم الاستحمام علي الإطلاق خلال هذه الفترة. لكننا كنا قد صممنا علي الخروج إلي المدينة للتنزه حتي ولو خالف ذلك تعليمات سنوسي. خرجنا متوجسين من احتمالية إصابتنا بالبرد كما قال صاحب المكان. وقفنا طويلا في الطريق الخالي حتي أتت سيارة فركبناها إلي الميدان الصغير. اكتشفت بعد الوصول إلي هناك أنه ما من شئ يمكننا فعله علي الإطلاق إلا الجلوس علي القهوة الوحيدة وتناول شاي زردة. صارحت صديقي بشعوري بالملل من كل هذا فالأمر بالنسبة لي ليس استفادة من حمامات الرمال, ولا إخراج الروماتيزم من جسدي, بل الموضوع كله أنني في إجازة أريد الاستمتاع بها. لم تثر رغبتي في انهاء الرحلة مبكرا جدا أي مشكلة فقد تفهم صديقي الاختلاف بيننا وكيف أني وجدت المكان كله غير جذاب فلم يعترف علي رجوعي إلي الإسكندرية في اليوم التالي. صباح اليوم التالي ذهبنا إلي حمام كليوباترا, عبارة عن حوض من الماء قطره مابين عشرة إلي خمسين مترا, والماء وصخر القاع تملأهما الطحالب, لم يكن المنظر جذابا لكني صممت علي النزول من باب تجربة كل شئ ولو لمرة واحدة. كانت المياه بها شئ أشبه بالزيت. قضيت فيها حوالي عشر دقائق فقط ثم خرجت. حين عدنا إلي المنزل أبدلنا ملابسنا سريعا وركبت مع عم سليمان إلي وسط المدينة, اشتريت حزاما من الصوف بعشرة جنيهات عرفت أنه يلف حول الخصر لإذابة الدهون قال لي صاحبي أن أعطيه هدية لصديقتي بالقاهرة والتي يظن إني سأتزوجها, لم أعلق علي كلامه. جلسنا إلي القهوة للمرة الأخيرة معا. كنت قد بدأت أحب الشاي الزردة فطلبت لكلينا قلت له وأنا أغادر: في انتظارك في الإسكندرية في الأتوبيس وفي رحلة استمرت أربع ساعات قرأت بعض الجرائد التي استطعت الحصول عليها من كشك صغير بجوار محطة الأتوبيس في سيوة. كانت الجرائد كلها تعود لعدة أيام مضت, كما إنها كانت في معظمها جرائد رياضية وهو النوع الذي لا أحبه, لكني وجدت نفسي في نهاية الرحلة وقد قرأتها كلها. وصلت إلي مرسي مطروح في الخامسة, اشتريت تذكرة أتوبيس آخر يقوم في السادسة إلي الاسكندرية التي سأصل إليها في العاشرة مساء. كانت أمامي ساعة واحدة بلا عمل وكنت جوعان فجلست إلي مطعم وأكلت بعض الساندويتشات ثم جلست علي قهوة المحطة, وما إن جاء الرجل حتي هتفت له بلهجة العليم بالأمور: واحد شاي زردة.