لم يكن الطريق إلي السلام ممهدا ويسيرا, بل يمكن الزعم أن معارك السلام في جوهرها أصعب من المعارك العسكرية, ففي الحرب تكون الأمور واضحة, والصراع صريحا, وأصوات الأسلحة سهلة التمييز أما في معارك الدبلوماسية فالمناورات كثيرة, والمراوغات أكثر, والتحالفات أحيانا غير واضحة والأزمات تتوالي لتتوقف المفاوضات حتي تستأنف في جولة جديدة بعد مساع من هنا وهناك... وفي هذه الحلقة من شاهد علي السلام يروي الوزير أحمد أبوالغيط تفاصيل أزمة جديدة من أزمات التفاوض مع إسرائيل وهي الأزمة التي أثارها مناحم بيجين بخطاب طويل مرتجل ألقاه في حفل عشاء في القدس حضره وفد المفاوضات المصري برئاسة الوزير محمد إبراهيم كامل تناول فيه الحق التاريخي لليهود في فلسطين ونشأة إسرائيل ومعاناة الشعب اليهودي مما أدي إلي حالة من التوتر الشديد أدت إلي رد فعل غاضب علي الجانب المصري كاد يعصف بالمهمة كلها... ونصل الآن إلي الأزمة التالية التي واجهها الاجتماع بالقدس... بعد أزمة عدم الاتفاق علي صياغة إعلان المبادئ... وأقصد بها المشكلة التي أثارها مناحم بيجين في حفل العشاء... كان السفير أحمد ماهر قد طلب مني مرة أخري أن أعد كلمة بسيطة وقصيرة يلقيها الوزير محمد إبراهيم كامل في نهاية العشاء في إطار تبادل الأنخاب بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي... وأعددت كلمة قصيرة جدا بها المجاملة الضرورية إلا أنها تتصف بالاتزان وتتفاعل مع المناسبة ليس أكثر أو أقل... وقام أحمد ماهر بتصحيح بعض صياغاتها دون تعديل في توجهها وكتبت علي كروت صغيرة... وذهبنا جميعا إلي هذا العشاء الذي أعتقد أن كل مسئولي إسرائيل وكبار أصحاب القرار بها تواجدوا فيه... وكان الطعام جيدا للغاية... وقال البعض من الإسرائيليين علي المائدة التي كنت أجلس عليها وحيث كان التنظيم بالحفل يقضي بوجود مجموعة كبيرة من الموائد المستديرة لجلوس أعضاء الوفود متفرقين مع الضيوف من الإسرائيليين ومائدة مستطيلة جلس عليها رئيس الوزراء وضيوفه الرئيسيين... محمد إبراهيم كامل سيروس فانس وكبار مسئولي إسرائيل وقريناتهم... قالوا... أي الإسرائيليين... لي... وكنت أجلس مع السفير أحمد ماهر الذي كان يؤكد دائما ضرورة تواجدي معه في كل المناسبات... أن هذه الأسماك المقدمة لنا اليوم... هي أسماك بحيرة البردويل... وقلت لهم سوف نستردها منكم... ولكنني أضفت... وبهدف تخفيف الصدمة عليهم... وسوف نبيعها لكم بسعرها الحقيقي... ومضي الحفل في هدوء ورصانة... ثم قام مناحم بيجين لكي يدلي بكلمة ترحيب بالوفدين المصري والأمريكي وبضيوفه... وإذ به يخوض في إلقاء كلمة مستفيضة غير مكتوبة ولكنها بالتأكيد جاهزة في باطن عقله... وتحدث عن معاناة اليهود في تاريخ العالم... وطردهم من مصر وتعرضهم للهولوكست علي أيدي هتلر... وحق الدول والمجتمعات في صد العدوان الذي تتعرض له الشعوب المسالمة مثل إسرائيل وحقها في الاحتفاظ بغنائم الحرب العدوانية التي فرضت عليها وتجربة الشعوب الأوروبية في هذا الصدد... واستشعرت وأنا أستمع لهذا البيان الفلسفي الطويل الكثير من الضيق والقلق... ونظرت بهدوء وإن كان لا يخفي التوتر الذي استشعره إلي احمد ماهر ولم أعلق لوجود إسرائيليين من الذين يتحدثون العربية علي المائدة معنا... وكنت أحاول أن أبصر محمد إبراهيم كامل من علي بعد... ورأيته... من خلال حركات جسده... يعكس التوتر والضيق... لقد فاتنا إطلاقا أن نعده لهذا الاحتمال الذي يجد نفسه الآن في مواجهته... وأخذت أترقب الموقف وكنت أسجل بسرعة ما تحدث به مناحم بيجين كما سجلت وبسرعة شديدة أفكاري في الرد عليه فلسفيا وتاريخيا... لقد كان لدي ما يمكن أن نفحمه به... وأنتهي رئيس الوزراء الإسرائيلي... وأعطي الكلمة لرئيس وفد مصر... محمد إبراهيم كامل... ولم يقرأ وزيرنا بطبيعة الأحوال والظروف البيان القصير المكتوب علي الكروت التي أعددناها... وقال أنه يود أن يشكر حكومة إسرائيل علي حسن الاستقبال والضيافة وأنه عندما دعي إلي هذا العشاء... وقبل الدعوة فقد كان يتوقع أن يقضي أمسية هادئة مع طعام طيب... إلا أن رئيس الوزراء رأي أن يقحم في كلمته أمام العشاء قضايا ونقاط ليس مجالها هذا الحفل... وأنني... والكلام للوزير المصري... لا أعتقد أن هذا الحفل هو المكان المناسب للرد علي ما قاله رئيس الوزراء... وأن كل ما أريد قوله هنا هو أن المبادئ التي حددتها في خطابي في افتتاح اللجنة السياسية والتي يرفضها رئيس الوزراء الآن... هي الأساس الوحيد الذي يمكن أن يبني عليه سلام عادل وشامل... أما ردي علي ما قاله فاحتفظ به لأقوله في اجتماع اللجنة السياسية غدا فهي المنبر المخصص لذلك... وبهتت القاعة... وتكهرب الموقف... ولم يشرب محمد إبراهيم كامل أو أي منا أي نخب مع الحضور... وطلب مناحم بيجين وقد الجمته المفاجأة من سيروس فانس وزير خارجية الولاياتالمتحدة أن يتحدث... وانتهي الحفل فور انتهاء كلمته... وكانت ليلة صاخبة في كل معانيها... لقد كرر محمد إبراهيم كامل كثيرا... بعد ذلك ولأعوام... تجربته مع مناحم بيجين الذي حاول أن يربت علي كتفه لكي يسأله... ما السبب لضيق الضيف المصري... وأنه لم يقصد الإساءة... ويضيف محمد إبراهيم كامل... أنه نظر شزرا إلي الإسرائيلي وبكل قسوة... وأنه تبين الكثير من القلق لدي مناحم بيجين عندما اناح الوزير المصري يده بقوة من علي كتفه. كانت أعمال اللجنة السياسية وبعد مجرد مرور اجتماع واحد مغلق لأعمالها... تتعرض للكثير من المشكلات العويصة التي تحتاج لجهد كبير... وكنا نرسل إلي القاهرة... لحظة بلحظة... وبشكل دوري أيضا مجموعات من البرقيات الشفرية إلي الرئيس السادات عبر مكتب نائب الرئيس حسني مبارك... نشرح فيها كل المواقف وصعوبات المفاوضات... وكان الوزير محمد إبراهيم كامل قد التقي قبل حفل العشاء الحزين والمشهود في نفس الوقت وبصحبته كل من الدكتور بطرس بطرس غالي وأحمد ماهر السيد الذي سجل المحضر بدقته المعهودة... ب مناحم بيجين... في مبني الكنيست في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي... وأتسم حديث مناحم بيجين بالحدة والنقد لكل ما جاء علي لسان الوزير المصري من مطالب ومواقف مصرية سواء في مطار اللد عند الوصول أو أمام اجتماع اللجنة السياسية... في بدروم الهيلتون صباح نفس اليوم...17 يناير... وأبرقنا بالموقف إلي الرئيس السادات... ثم جاءت هذه المواجهة في حفل العشاء وتوصل الرئيس السادات إلي خلاصات الموقف... وكان في كل برقياته المرسلة إلي محمد إبراهيم كامل يحثه علي الهدوء وعدم السماح للإسرائيليين باستثارته... مع تشجيعه الدائم... من خلال تأييد خطواته ومواقفه وحتي يطمئن وزير الخارجية لنهجه وما يسير فيه... وذهبنا جميعا... كل الوفد المصري وكل الصحافة المصرية نعبر عن تشجيعنا ورضانا للوزير المصري في جناحه بالفندق... وكانت مظاهرة مصرية قوية... ثم جلست مع أحمد ماهر في حجرته المجاورة لجناح الوزير المصري... وهمست... بعدم رضائي عن كل الوضع... لقد كان أداء الوزير قويا وحازما... إلا أنني تصورت أنه كان ينبغي لنا أن نرد علي كل فلسفات رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي كان يعشق التاريخ... وله معرفة كبيرة بالتاريخ الأوروبي... واستحواذ الأوروبيين تاريخيا علي أراضي بعضهم البعض... ونقل سكانهم... وغير ذلك من قصصهم... لقد كان في إمكاننا أن نوجه لكل هذه الفلسفة والمنطق الإسرائيلي ضربة قاصمة... خاصة أن كل الحفل كان في العلن وأمام الإعلام الدولي... ونظر إلي أحمد ماهر... وعكست عيناه تفهمه لما أقول... وقال يا أحمد محمد بك... ليس هكذا... واستيقظنا في الصباح لكي نعد للاجتماع التالي للجنة السياسية... وجاء سيروس فانس الذي كان عليه أن يغادر في مساء هذا اليوم18 يناير عائدا إلي واشنطن لارتباطات حاكمة... بعد انتهاء حفل عشاء كان قد دعي الجانبان الإسرائيلي والمصري إليه... لقد كان سيروس فانس... مثلما سبق لي القول... رجلا يتمتع... ليس فقط بالحكمة والإخلاص... بل كان ذا مصداقية كبيرة في كل مواقفه... ولقد شهدته بعد ذلك يعمل في قمة كامب دافيد الثانية في سبتمبر1978 أو الاجتماع السابق عليها في ليدز كاسل ببريطانيا... وفي كل المشاورات الأخري التي حضرتها مع محمد إبراهيم كامل و أحمد ماهر السيد... وكان أداؤه يتسم دائما بهذه الجدية الأنجلو ساكسونية... لقد كنت أراه بعد ذلك لسنوات في عام85 وما بعده... عندما كنت أعمل في وفد مصر لدي الأممالمتحدة... إذ كان يسير دائما إلي مكتبه من شقته في منطقة سنترال باركبمدينة نيويورك... وكنت كثيرا ما أسير علي قدمي من محطة الأتوبيس الذي يحضرني من منزلي في نيوجيرسي عبر نهر الهدسون إلي مانهاتن... واراه في الشارع الخامس حاملا لحقيبة صغيرة جدا للأوراق وكانت ملامحي الشرقية تكشف هويتي... وأنظر إليه وأحييه... فيرد التحية بابتسامة رقيقة... وفي يوم أوقفني... وقال... أعتقد إنك أحد المصريين الذين عملنا معهم لسنوات في المفاوضات... وأجبت بالإيجاب... وأبلغته أنني أعرفه جيدا من خلال مفاوضات القدس/ القاهرة/ الإسكندرية/ ليدز كاسل/ قمة كامب دافيد... وكثيرا ما جلست إلي نفس المائدة معه... وعلق وقتها... بأنه يتذكر الآن... لقد كان سيروس فانس أحد دبلوماسي أمريكا العظام... واستقال في مايو1980 من إدارة الرئيس كارتر احتجاجا علي العملية العسكرية الفاشلة التي قامت بها القوات الأمريكية ضد إيران في مواجهة أزمة الرهائن الأمريكيين والسفارة الأمريكية في طهران... أقول جاء سيروس فانس وكبار معاونيه وطرح علي محمد إبراهيم كامل مشروعا أمريكيا يسعي للتقريب بين الجانبين المصري والإسرائيلي ويقدم صياغة جديدة لإعلان المبادئ... وتضمن المقترح الأمريكي أربعة نقاط محددة... هي:- إن حكومتي مصر وإسرائيل مصممتان علي الاستمرار في جهودهما للوصول إلي تسوية سلمية شاملة للنزاع في الشرق الأوسط. وفي إطار هذه التسوية فإن الجانبين يعبران عن استعدادهما في التفاوض حول معاهدات سلام لتنفيذ القرارين242/.338 أنه سيتم التوصل إلي حل عادل للمسائل الخاصة بالضفة الغربية وغزة والتي ستمكن الفلسطينيين العرب من المشاركة في تقرير أمر مستقبلهم وذلك من خلال محادثات تشارك فيها مصر/ الأردن/ إسرائيل/ وممثلين عن الفلسطينيين العرب. سوف يتم إنهاء كل حالات الحرب واحترام سيادة ووحدة أراضي والاستقلال السياسي لكل دول المنطقة وإقامة علاقات سلمية طبيعية من خلال معاهدات سلام. وجاء الطرح الأمريكي مخيبا للآمال... ولم يتحدث الأمريكيون عن الانسحاب... كما أنه تناول الفلسطينيين باعتبارهم الفلسطينيين العرب... وهي نفس الصياغات التي تستخدمها إسرائيل والتي أعتقد أن القارئ الكريم قد أصبح علي إطلاع بين عليها في ضوء تكرارها طوال هذا الشهر منذ14 ديسمبر77 في اجتماعات مينا هاوس وحتي يوم18 يناير.1978 وصارحهم محمد إبراهيم كامل عن غياب الإشارة إلي الانسحاب أو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية... وكذلك الإشارة إلي ما يسمي القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وليس الفلسطينيين العرب في مواجهة الفلسطينيين اليهود مثلما يحاول مناحم بيجين... وأوضح الجانب الأمريكي وكان الحديث دائما في هذا اليوم لكل من سوندرز واثرتون... اللذين كانا يصوغان الرؤية الأمريكية ويقودان محاولات التقريب بين الأطراف... بأنه علينا أن نتنبه أيضا إلي أن هناك طرفا إسرائيليا له مطالبه ومواقفه وأن التفاوض لا يدور بين أمريكا ومصر... ولكن بين إسرائيل ومصر... وتشددنا وقلنا لهم... اذن... لا نرغب في إعلان مبادئ لا يعكس اهتماماتنا ورؤيتنا وأهدافنا... وطرح الأمريكيون أن نقدم مشروع مصريا للأراضي الفلسطينية والقضية الفلسطينية في مواجهة ما يطرحه مناحم بيجين... ورفضنا أن نقدم طرحا مصريا متكاملا في القضية الفلسطينية مع تمسكنا بأن يتضمن إعلان المبادئ الإشارة إلي التوصل إلي تسوية عادلة للقضية الفلسطينية في كل جوانبها... والحقيقة... فقد فرضت علينا التطورات في المرحلة التالية... في مايو/ ويونيو...78 ثم في ليدز كاسل... في يوليو78 أن نطرح رؤيتنا للتسوية الفلسطينية عبر أفكار محددة وواضحة. واستمر الجدال بين الجانبين المصري والأمريكي لعدة ساعات... ثم انفض الاجتماع... توطئة للالتقاء بعد الظهر لاستكمال النقاش. وحصلت علي وجبة غداء سريعة... وعلمت من الدكتور عصمت عبد المجيد أنه سيقوم بزيارة المسجد الأقصي... فصاحبته... وكانت زيارة مشهودة أخري... إذ دخلت المسجد وتعرفت عليه... وهزني المشهد بما لم أعهده قط في حياتي خاصة أن الاحتلال وجنوده كانوا يخيمون علي كل الزيارة... وزرنا مسجد عمر... ووقفت بجوار الصخرة... وتجولنا في القدس القديمة وصمم الإسرائيليون علي قيامنا بزيارة منطقة حائط البراق... ودخل الدكتور عصمت عبدالمجيد وأمسك بغطاء الرأس اليهودي المفروض وضعه في مثل هذه المناسبات... ورفض ارتداءه وأخذت أتابع خطواته عبر الحاجر الحديدي إلي الباحة وحيث فضلت عدم الدخول أو مصاحبته... وعدنا بعد ساعة... وذهبت بعد ذلك بصحبة أحمد ماهر السيد للتجوال في القطاع الغربي للمدينة بصحبة بعض أفراد الأمن الإسرائيليين ذوي الملابس المدنية ولاحظت رواجا كبيرا بالمحلات... وأناقة التقديم في الأسواق... وكأنني في مدينة أوروبية مزروعة بالشرق الأوسط... كانت ملاحظتي التالية أن الكثير من الشبان والفتيات... وهم يتسوقون أو يتنزهون... يحملون البنادق الآلية واستغربت الظاهرة... وسألت بعض أفراد الأمن الذين كانوا من نفس عمر هؤلاء الشباب... فقالوا... أنه الحرص والحاجة للدفاع عن الشوارع ضد احتمالات الهجمات الفلسطينية... أن لديهم الحافز لذلك... كما أن هناك تقسيما للمهام والمسئوليات... واستغربت الظاهرة... لأن الكثير من الحوادث يمكن أن تقع في مثل هذا المجتمع الذي يحمل السلاح بسبب أو بدونه... وتذكرت قراءاتي في اسبرطة والمدينة والمجتمع المسلح والمستعد للقتال دائما. وعدنا إلي الفندق لكي يتسلم أحمد ماهر من الأمريكيين المشروع الأمريكي المعدل حول إعلان مبادئ التسوية والذي سبق أن وعد سيروس فانس بإعداده وتسليمه لنا بناء علي اجتماعه في الصباح مع محمد إبراهيم كامل... وأخذنا نقرأ النص الذي تضمن:- تكرار الفقرة الخاصة بتصميم حكومتي مصر وإسرائيل علي الاستمرار في جهودهما للوصول إلي تسوية سلمية شاملة في الإقليم. وأنه في إطار هذه التسوية فإن الحكومتين يعبران عن استعدادهما للتفاوض للتوصل إلي معاهدات سلام طبقا لميثاق الأممالمتحدة ومبادئ قرار مجلس الأمن242 في كل أجزائه. سوف يتم انسحاب إسرائيل من أراض احتلت في نزاع عام1967 كما سوف تكون هناك حدود آمنة ومعترف بها لكل الدول وهي فقرة جديدة طرحها الأمريكيون في ضوء اجتماع وزير الخارجية المصرية لغيابها عن النص الأمريكي الأول. سوف يتم إنهاء كل دعاوي الحرب واحترام وحدة أراضي الدول وسيادتها واستقلالها السياسي وإقامة علاقات سلام طبيعية بين الدول طبقا لميثاق الأممالمتحدة. ووضح لنا بعد القراءة السريعة للنص إنه لا يستجيب بعد للمطالب المصرية المحددة سواء بالنسبة لفقرات الانسحاب أو القضية الفلسطينية التي غابت بالكامل وهو ما أثار المزيد من الاستغراب وأخذنا النص وصعدنا إلي الوزير محمد إبراهيم كامل لنتحدث بشأنه معه وإذ بنا نواجه بموجة من التساؤلات من الكثير من معاوني الوزير وأفراد الأمن أن الوزير يسأل عنكم أننا سنغادر الآن إلي القاهرة بتعليمات من الرئيس وأن الوزير موجود حاليا في غرفة الاتصالات الخاصة بالوفد حيث يحاول التحدث مع الرئيس في الأمر وذهبت إلي جناح الوزير وذهب أحمد ماهر إلي غرفة الاتصالات للتعرف علي الموقف وعاد الوزير محمد إبراهيم كامل وبرفقته أحمد ماهر إلي الجناح وفهمت من حديثهما أنه لم يتمكن من الحصول علي موافقة بتأجيل مغادرة الوفد أو أن يغادر الوزير فقط مع ترك بقية أعضاء الوفد المصري باعتبارها رسالة مصرية بعدم قطع المفاوضات كان الوزير محمد إبراهيم كامل قد زاد اقتناعا خلال هذه الأيام الأخيرة بأن مبادرة الرئيس السادات قد أطلقت طاقات وفرصا كبيرة لنجاح مصر وربما العرب معها لكشف إسرائيل وتضييق الخناق حولها لعل ذلك يؤدي إلي تطويع الموقف الإسرائيلي في اتجاه القبول بالمطالب المصرية والفلسطينية في تحقيق الانسحاب من سيناء والقبول بتسوية عادلة للنزاع الفلسطيني/ الإسرائيلي والحقيقة التي لا أري إمكانية اليوم أو حينذاك للتشكيك فيها... أن المبادرة فعلا كشفت الموقف الإسرائيلي وأعطت أو وفرت زخما للموقف المصري غير مسبوق وأتاحت بالتالي إطلاق جهد سلام حقيقي وإن كان ممتدا في إطاره الزمني... ولكي يتوج في كامب دافيد بعد تسعة شهور في سبتمبر1978 بالنجاح في توقيع إطارات السلام... ولقد فكرت حينذاك مليا وأخذت أناقش احمد ماهر السيد كثيرا في الأمر... لقد كان هناك اقتناع مؤكد لدي الوزير إسماعيل فهمي بأن مصر والعرب في طريقهم إلي بدء المفاوضات الجماعية مع إسرائيل من خلال استعادة مؤتمر جنيف.... في نهايات عام1977 وكانت وزارة الخارجية... ووزيرها يعملان بنشاط لتدبير وتحقيق كل الإجراءات التنظيمية لانعقاد المؤتمر التفاوضي مرة أخري... وقلت ل ماهر الذي رد بالموافقة... هل تصدق... وقد قمنا بالمبادرة وبزيارة القدس وحركنا الموقف... ومع ذلك نواجه بكل هذا الصلف والتشدد من قبل إسرائيل... كيف تتصور إذن ما كان يمكن أن يكون عليه الوضع... في غياب كل هذا الزخم... في مؤتمر جنيف... وبكل تنافسات وتنازعات المصالح العربية المختلفة وتوجهات كل بلد منا... وأضفت... لقد فعل الرئيس السادات خيرا بتحركه المنفرد لأن مصر هي مصر... وأعود إلي قرار الرئيس السادات في طلب سحب الوفد من مفاوضات القدس... فلقد تنبه إلي أن الموقف الإسرائيلي المتشدد في الإسماعيلية في25 ديسمبر وعلي مستوي القمة... وطلب إسرائيل الإبقاء علي قواعد جوية ومستوطنات في أراضينا...ثم رؤية الجانب الإسرائيلي لشكل التسوية الفلسطينية وأن كل ما هو معروض إسرائيليا يتمثل فقط في السماح للفلسطينيين بالحكم الذاتي لمواطنيهم من الفلسطينيين العرب؟!... أي أن يقرروا مواعيد فتح أو إغلاق محلاتهم وكيفية إدارة مدنهم وقراهم علي حد قول الجنرال ديان للسفير عصمت عبدالمجيد في الإسماعيلية... ولقد تنبه الرئيس أيضا إلي تشدد الموقف الإسرائيلي سواء في الأطروحات الإسرائيلية أمام اجتماعات اللجنة السياسية في القدس أو مقابلات الوزير محمد إبراهيم كامل مع القادة الإسرائيليين... وأخيرا جاء خطاب مناحم بيجين في حفل العشاء لكيلا يدع مجالا للشك... بأن الجانب الإسرائيلي لايزال علي غير اقتناع بأن السلام مع مصر سيتطلب قرارات إسرائيلية جادة للانسحاب الكامل من أراضيها وأيضا طرح رؤية عاقلة وجادة لتسوية فلسطينية/ إسرائيلية يمكن الدفاع عنها مصريا وعربيا... ومن ثم جاء قرار الرئيس بالانسحاب وحيث قدر أن الوضع ليس جاهز بعد لتحرك إسرائيلي جاد وأنه سوف يحتاج بالتالي للمزيد من التنسيق مع الولاياتالمتحدة للمزيد من الضغوط علي مناحم بيجين والسعي إلي توظيف المجتمع الإسرائيلي وبعض التوجهات السلمية بداخله من ناحية واستخدام الضغط الدولي والأمريكي... وبخاصة اليهود الأمريكيون من ناحية أخري لتضييق الخناق علي مناحم بيجين وفرض قبوله لتسوية مرضية للأطراف... وأعود الآن إلي مقابلات محمد إبراهيم كامل مع مناحم بيجين... والذي رأيت أنه كان حادا... بل وعنيفا في كل لقاءاته مع الوزير المصري الذي رغم استعداده لمواجهة حادة... بل وجافة قد استمر رابط الجأش وإن كان لم يرد الصاع صاعين... ربما حتي لا يتهم من الرئيس بأنه ترك لنفسه العنان في التصدي للقفاز الإسرائيلي الملقي تجاهه... وتحدثت مع ماهر بافكاري... وقال في تعقيبه... يا احمد... محمد بك عاقل ولن يجهض الموقف... والطريق سوف يكون... في ضوء ما نري ونشهد... طويلا... طويلا... وجاء سيروس فانس إلي جناح الوزير المصري في ساعة متأخرة من مساء يوم18 يناير لكي يعبر عن أسفه... وانزعاج الرئيس كارتر لانقطاع المفاوضات مشيرا إلي نجاحه في إقناع الإسرائيليين بقبول الصياغة المعدلة لمشروع إعلان المبادئ الأمريكي... خاصة في شق فقرة الانسحاب... كما أنه كان يقترب من النجاح في التوصل إلي صياغة مقبولة لهم بالنسبة للقضية الفلسطينية... وأنه كان يحتاج لساعات قليلة إضافية... وصارحه محمد إبراهيم كامل... برأيه في أن المواقف الإسرائيلية التي اقتربت من العجرفة قد أجهضت هذه الجولة... إلا أن المؤكد أنه سيكون هناك جولات أخري بعد إعادة التفكير والإعداد والتدبر الجيد للموقف... وعقب سيروس فانس... بأنه تلقي تعليمات الرئيس كارتر بالذهاب إلي القاهرة... وتأجيل العودة إلي واشنطن وذلك بهدف الإمساك بالموقف ومنع تدهوره وإعادة بناء الوضع الذي يسمح بالعودة إلي المفاوضات مرة أخري... أي فترة استعداد وتجهيز جديدة. لقد استغرقت هذه الفترة المشار إليها ستة شهور... كثفت مصر خلالها من الاتصالات مع الأمريكيين... وتحركت واشنطن من جانبها لبناء الموقف الذي يمكن أن يؤدي إلي تقريب رؤية الطرفين المصري الإسرائيلي.. وصولا إلي أول لقاء عالي المستوي بين الطرفين في يوليو1978 في ليدز كاسل ببريطانيا. وآمل أن يتاح لي الوقت والظروف للكتابة عن هذه الشهور وصولا إلي كامب دافيد وعبورا بليدز كاسل ولقاءات هذه الشهور التسعة الممتدة من يناير78 حتي سبتمبر...1978 ثم أخيرا قمة كامب دافيد نفسها وما دار بها وخلالها. ,وقد يكون من المناسب لكل من يرغب في التعرف علي المزيد من ملامح هذه الفترة أن يعود إلي قراءة كل من كتب الوزير محمود رياض إسماعيل فهمي محمد إبراهيم كامل وأخيرا عصمت عبد المجيد.