بانتهاء أيام التشريق الثلاثة يكون موسم الحج لهذا العام قد انتهي, فقد استكمل الحجاج غير المتعجلين المناسك برمي الجمرات لليوم الثالث وقام البعض منهم بطواف الوداع في بداية لرحلة العودة إلي الديار, حيث ينتظر الاهل العائدين من الأراضي المقدسة مغفوري الذنوب ومستجابي الدعاء. وأيضا محملين ببعض الهدايا من أرض الحرمين الشريفين. ولعل موسم الحج لهذا العام هو الاكثر عائدات, إذ حقق35 مليار ريال سعودي حسب التقديرات الرسمية بزيادة3 مليارات ريال عن العام الماضي, وهو أيضا الأقل من الحوادث والأقل من حيث الاصابات التي تعرض لها بعض الحجاج برغم الازدحام الشديد في مواقع المناسك كمني والمزدلفة وعرفات وحرم الكعبة المشرفة نفسها. وهو أمر يجد تفسيره في تلك الجهود الكبيرة التي تبذلها السلطات السعودية في إعداد تلك المواقع لاستقبال هذه الأعداد الغفيرة من كل بلاد العالم دون استثناء, وأبرز الأمثلة تطوير مواقع رجم الجمرات بمني لتصبح أربعة طوابق عملاقة أتاحت الفرصة لرجم الجمرات بأقل المتاعب الممكنة. وحين نتكلم عن موسم الحج, فإننا نتكلم عن مناسبة دينية عظيمة, تقاس بحجم المشقة البدنية من جانب, ومدي التزام الحجيج بأحكام الحج, كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة التي تمثل الشق الروحي من جانب ثان. وكلا الأمرين معا يتطلب قدرا من التمعن والتأمل في المعاني والدلالات في كل نسك علي حدة, وفي مجمل المناسك معا, ومن هنا يأتي دور العلماء الأجلاء في شرح وتبيان هذه المعاني, وفي ضرورة التمسك بها كما وردت في السنة النبوية, مع الأخذ في الاعتبار مستجدات الحياة المعاصرة. وهكذا تتشكل معادلة الحج الثلاثية الأبعاد, والتي يتطلب تجسيدها علي ارض الواقع إعدادا ماديا وروحيا في آن واحد, بمعني ان تكون التسهيلات المادية بهدف تحقيق المقاصد من الحج ليس بصورة شكلية, وانما بصورة متكاملة تجمع بين التعب البدني المعقول والرقي الروحي والايماني معا. والذين يسر الله تعالي لهم أداء فريضة الحج هذا العام لا تختلف ملاحظاتهم عن ملاحظات الحجيج في الاعوام السابقة, وذلك رغم البنية الاساسية الهائلة التي بنيت بالفعل في السنوات القليلة الماضية وتلك الجاري بناؤها بالفعل, وتكلفت حسب البيانات السعودية الرسمية اكثر من70 مليار دولار. وبقاء الملاحظات نفسها يعني أن هناك جانبا في المعادلة الثلاثية التي تحكم الحج بحاجة إلي مراجعة جذرية. ولعل نقطة البداية هي في الأعداد التي يسمح لها بأداء الحج سنويا. وفي الأعوام الماضية تطورت أعداد الحجيج من1.5 مليون حاج إلي ثلاثة ملايين حاج لهذا العام حسب الاحصاءات الرسمية السعودية وبزيادة قدرها02% عن العام الماضي وفقا لتصريحات الامير نايف بن عبد العزيز. لكن الملاحظة المباشرة لاعداد الحجيج تشير إلي ارتفاع أعدادهم لهذا العام إلي ما يقرب من خمسة ملايين نسمة, يشملون الاعداد المسموح لها, إضافة إلي هؤلاء الذين استطاعوا الدخول إلي مناطق الحج عبر الطرق الالتفافية المختلفة. وحتي لو افترضنا ان أعداد الحجيج لم تزد علي3.5 مليون نسمة, فهو عدد كبير بكل المقاييس مقارنة بالمساحة المتاحة في كل من عرفات ومني والمزدلفة, والتي يتطلب أداء المناسك فيها أن يتجمع كل الحجيج في وقت واحد, ثم ينطلقون منها إلي مكان آخر في وقت واحد ايضا. فبالرغم من وجود أكثر من طريق بين عرفات والمزدلفة, فقد امتد زمن التفويج من عرفات إلي المزدلفة, وهي مسافة لا تزيد علي6.8 كم, إلي اكثر من ثلاث ساعات ونصف. حيث انطلقت مجموعات الحجيج ما بين مترجلة وراكبة في آن واحد بعد أذان المغرب, وكان المنظر علي كافة الطرق رهيبا, كما كان التلوث الناتج عن حوالي3 آلاف سيارة اتوبيس تسير في الآن نفسه رهيبا أيضا. هذا الازدحام الشديد تكرر مرة أخري في طواف الافاضة وفي السعي بين الصفا والمروة وفي طواف الوداع للمتعجلين في يومين, مما جعل قيمة النسك نفسه محصورة في جانبها المادي, أي الارهاق الجسماني والتركيز في حماية الذات من طوفان الحجيج, وذلك أكثر بكثير من تأمل المعاني الروحية في النسك نفسه. فضلا عن شيوع قيم وسلوكيات الزحام, حيث الأنانية الشديدة, وكثرة المشاحنات لأتفه الأسباب. ولا يقتصر الامر علي لحظة أداء النسك, ففي مني علي سبيل المثال, التي يتطلب المبيت فيها اربع ليال علي الاقل, تتجسد فيها كل سلبيات ظاهرة الازدحام الشديد, فالحجيج الذين ليس لهم مكان محدد سلفا للمبيت يفترشون الشوارع والطرقات, ويحولون مسجد الخيف مثلا إلي ساحة إعاشة كبيرة حيث بقايا الطعام في كل مكان والاحاديث في أمور الدنيا هي الغالبة بين المقيمين في باحة المسجد بما يستحيل معه أداء الصلاة المفروضة, كما ينبغي أو حتي قراءة جزء يسير من القرآن الكريم. وقد كان المنظر دراميا حين أمطرت السماء في اليومين الثاني والثالث من العيد, وحدث هرج ومرج في شوارع مني وأسواقها, وبات الحجيج يبحثون عن مجرد مظلة تقيهم المطر ولا يجدون, ويتحول منظرهم إلي شيء بائس حقا لا يليق بكرامة الحاج وكرامة المكان وقدسيته. ناهيك عن كميات المخلفات الرهيبة المبثورة في كل مكان. أما حول الحرم المكي الشريف, فقد كان النظام المروري قاسيا, إذ تم منع السيارات اقل من30 راكبا, وبذلك بات علي الحجيج أن يسيروا مسافات لا تقل عن3 كيلومترات إذا أرادوا الصلاة في الحرم, وهو بدوره مكدس بالبشر, أو الخروج منه حيث أماكن الإقامة. هكذا تختل المعادلة المتوازنة الطبيعية بين الجانب المادي والجانب الروحي, وفي حال كهذا لابد من إعادة النظر في أعداد الحجيج, وفي الدور الذي يلعبه العلماء الذين يقدمون الفتاوي المختلفة لاداء المناسك. وإذا كان في خلاف العلماء رحمة بوجه عام, فهو رحمة بوجه خاص بالنسبة للحجيج الذين يجدون أكثر من فتوي لاسيما بالنسبة لتوقيت رمي الجمرات ومدة البقاء في المزدلفة ومدي وجوب طواف الوداع بالنسبة لأعمال الحج. وأتصور أن رقم1.5 مليون حاج سنويا هو العدد الامثل الذي يناسب المساحات الجغرافية لمواقع المناسك كما يناسب امكانيات الحرم المكي نفسه. فالمسألة في الحج ليس مجرد الوجود البدني في المكان, ولكن إتاحة الفرصة لإقامة ذات طابع انساني, توفر لحظة روحية تكسب المرء قوة دفع إيمانية وتعلمه مقاصد الحج الشرعية كما علمنا إياها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. وقد يقول قائل ان السلطات السعودية لا تبخل بأي شيء لتسهيل الحج وتوفير سبل الاعاشة والمواصلات, وهذا صحيح ولا جدال فيه. لكن النظرة المستقبلية تستدعي الأخذ في الاعتبار أمرين; الأول أن أعداد المسلمين في ربوع العالم المختلفة تزداد سنويا بنسب كبيرة, وربما يصل عدد المسلمين إلي اكثر من2 مليار نسمة في غضون عقدين من الآن, وهذا يتطلب ان يكون عدد الحجيج في حدود لا تقل عن10 او15 مليون حاج, وهو رقم لا يمكن أن تحتمله مناسك الحج في عرفات أو مني علي سبيل التحديد. وهنا يتضح الاعتبار الثاني وهو محدودية المساحات الجغرافية لاماكن الحج الرئيسية, فمن أين يمكن توسعة عرفات جغرافيا او زيادة مساحة مني؟ المسألة هنا تحددها الجغرافيا والطبيعة و لا تحددها رغبات البشر وامنياتهم. وحتي لو تصورنا جدلا أن هناك اجتهادات غير مسبوقة في الفتاوي التي قد تبيح مثلا أن يقيم الحاج ساعة او بعضا منها في عرفات مثلا او مني, وان يحدث تفويج للحجيج بين هبوط وصعود للمجموعات لمجرد البقاء في عرفات ساعة واحدة, فهل هناك امكانات عملية يمكنها أن تحقق ذلك, وهل سيقبل المسلمون أصلا مثل هذه الفتاوي, لاسيما وأن البقاء في عرفات لابد أن يمتد من بعد صلاة الفجر إلي غروب الشمس, ولا شيء اقل من ذلك حتي يصح الحج وتكتمل أركانه, فالحج عرفة كما قال الرسول الامين عليه الصلاة والسلام. والصحيح أن هناك استثمارات هائلة تقوم بها الحكومة السعودية والقطاع الخاص في قطاع الفنادق والغذاء. والسؤال الذي يفرض نفسه هل يمكن توفير أماكن إعاشة مناسبة لكل هذا العدد المتصور من الحجيج في غضون عقدين من الآن لا سيما في مواقع المناسك نفسها. الأمر كله يحتاج إلي قرارات شجاعة من كل الدول الاسلامية; قرارات تغلب عناصر الحج بجانبها البدني والروحي علي أية مكاسب مادية أو رواج في عمليات البيع والشراء, أو في حركة شركات السياحة والطيران والمطوفين. فالحج ليس موسما للدنيا وحسب, بل هو موسم يجمع بين التطلع إلي المغفرة والرحمة من رب العباد, ومنافع مشهودة أقرها القرآن الكريم, ولكن في حدود المعقول بلا طمع أو مزايدة.