كانت ثورة الري الدائم ركيزة الثورة الزراعية الثانية ومن ثم الثورة السكانية في مصر في الدولة المركزية القوية التي أسسها محمد علي, بعد آلاف السنين من ثورة ري الحياض والثورة الزراعية الأولي. ومن ثم الثورة السكانية في الدولة المركزية القوية التي أسسها فراعنة مصر. ويكفي أن نشير بين مآثر محمد علي أن تعداد سكان مصر, الذي كان في تناقص منذ العصور الوسطي, لم يتوقف إلا في عهد محمد علي, حين تضاعف عدد سكان مصر نتيجة لاستتباب الأمن العام أكثر من أي سبب آخر, علي الرغم من الأوبئة والمجاعات المتكررة وخمس حروب كبيرة. وينسب البعض الفضل إلي الفرنسيين في المبادرة بالإصلاحات, التي بدت حتمية, عشية ولاية محمد علي. وربما يكون الأخير قد أطلع علي مسودة لإصلاحات مينو, كما تقول هيلين ريفلين, صاحبة كتاب الاقتصاد والإدارة في عهد محمد علي. لكن الاحتلال الفرنسي لم يدم إلا فترة قصيرة للغاية لا تكفي لأن تغير مصر اقتصاديا أو سياسيا أو ثقافيا. بيد أن حملة نابليون جلبت خبراء فنيين فرنسيين إلي مصر, كان الكثيرون منهم من أتباع مذهب سان سيمون الذين قدموا خدماتهم لمحمد علي. وقد نادي السان سيمون بفرض سيطرة الدولة علي وسائل الإنتاج, واهتم بعضهم بمشروعات مصر الاقتصادية في عصر محمد علي. ولم تنطلق دولة محمد علي ولديها نموذج واضح للإصلاح, لكنها تبنت سياسات مرحلية, واتبعت مبادئ الميركانتيلية, التي مؤداها أن المصالح الاقتصادية للأمة بأكملها أكثر أهمية من مصالح الأفراد أو أجزاء الأمة, وأنه من المرغوب فيه أن تزيد الصادرات علي الواردات, وأن الصناعة والزراعة والتجارة يجب أن تكون موجهة نحو تكديس الذهب, اللازم لدفع مرتبات القوات وتقوية الجيش وصد الغزو, وللاستثمار في المشروعات الزراعية والصناعية. وبهدف زيادة صادرات السلع الزراعية قررت حكومة محمد علي السيطرة علي الموارد الزراعية, وأجبرت الفلاحين علي زراعة محاصيل خاصة بالتصدير, وليس تلك الخاصة بالاستهلاك المحلي, وهو ما استتبع تغييرات في حيازة الأرض الزراعية والضرائب. وقد أقام محمد علي سلطة مركزية قوية, أشرفت علي أعمال الري وتحسين الزراعة وانتزاع المزيد من فائض الإنتاج من الفلاحين. وفي عام1825 قرر الوالي أن يزور الأقاليم بنفسه, وأرسل يقول إلي حكامها: عندما قسمت البلاد إلي أقسام, كان الدافع هو تيسير نجاح وتقدم الزراعة, لكن هناك نقصا في الاهتمام الموجه لزراعة المحاصيل المحسنة الجديدة, التي أدخلت مؤخرا. وقد شهد الريف المصري إصلاحات كما شهد كوارث. وكانت الإصلاحات واضحة في نظام الري الدائم الذي أدي إلي زيادة المساحة المحصولية وعدد المحاصيل المنتجة سنويا, لكن التحسينات في الزراعة التي زادت أرباح الفلاح, قابلتها ضرائب أعلي. وتطلب شق وتطهير الترع قوة عاملة شكلت عبئا ثقيلا علي الأهالي, وكان ري الحياض يمثل عبئا أقل ثقلا علي الفلاح, ولكن مع الري الدائم صار يعمل وقتا أطول, وهو ما حرم الفلاح من العمل في صناعات المزرعة, التي كان يزيد بها دخله خلال أشهر الصيف. وكان سعي محمد علي الي السيطرة علي تجارة المواد الخام الزراعية والتوسع في انتاجها يستلزم تعديل نظام ملكية الأرض الزراعية تعديلا يسمح بسيطرة أكبر علي إنتاج الأرض الزراعية من جانب الحكومة المركزية. وفي يونيو1809 أصدر محمد علي أمرا بأن تخضع أراضي الوقف للضرائب, وكانت معفاة من قبل, ومعها خضعت كذلك أراضي الوسايا للملتزمين. وكان كثير من البكوات المماليك قد أخذوا جانب الوالي, بعد أن تم اجتذابهم بوعود الثروة والإعالة, وكذلك تم شراء الكثير من حلفائهم من البدو بالوعود بأراض زراعية وبحكم ذاتي. وتسبب هذا في نزاع بين الوالي وبين أكبر أنصاره الوطنيين عمر مكرم, الذي كان يمثل جناح الملتزمين من العلماء, وكان تحت أيدي الكثير منهم أراضي الوقف, ورفضوا إعادة توزيع الثروة الزراعية, وكان ما فقدوه نتيجة أكثر من مجرد أرضهم الزراعية. ومع تخلصه من العلماء أصبح الطريق أمام محمد علي مفتوحا علي اتساعه لإحداث تغييرات داخلية جذرية. ورغم احتقار محمد علي وإدارته للمصريين الفلاحين, ونظرتهم إلي مصر باعتبارها ملكا لهم, فقد أيقنوا بنفس القدر أن مصر السعيدة المثمرة أفضل من مصر الكئيبة الجائعة, إذ سيصبح إنتاجها أكثر وحلبها أيسر, فالبقرة التي تطعم جيدا وتجد كفايتها تعطي لبنا أفضل من تلك البقرة الجائعة. فأعلن محمد علي أن لمصر ملكين, السلطان محمود والفلاح! وأصدر أوامره بأن يتظلم الفلاحون إلي المدير إذا ما أسيئت معاملتهم, وإذا ما فشل هذا التظلم فإنه يمكنهم أن يتظلموا إليه مباشرة. وفي خلال جولاته المتعددة في الريف كان مسموحا لأي فلاح لديه مظلمة أن يتقدم بها إليه. وكانت هذه التوجيهات تؤخذ بجدية علي ضوء عدد التظلمات في السجلات وحقيقة أن هذه الشكاوي كان يتم التحقيق فيها, كما تسجل عفاف مارسو وفي كتابها مصر في عهد محمد علي. أصدر مجلس الشوري, وكان استشاريا صرفا, لائحة زراعة الفلاح, وكانت الوثيقة مزيجا من وسائل تحسين ممارسة الزراعة, ومعها قواعد بألا يعمل الفلاحون في السخرة إلا لمدة خمسة أشهر في السنة, وأن يعملوا في أرضهم هم أثناء الشهور المهمة وليس في أعمال السخرة. وقامت الحكومة بإقراض المال للفلاحين, وأقرضت القري الخربة التي تعرضت للدمار نتيجة لبعض الكوارث مبالغ للقيام بعملية البذر. وكانت الأموال المقترضة تخصم في النهاية من ثمن المحاصيل التي تباع للحكومة في نهاية الموسم. وقد نشأ إقراض الأموال للفلاحين نتيجة الحاجة الشديدة والرغبة في ألا يقوم أحد بخلاف الحكومة باستغلال الفلاحين. وكان التجار المحليون الذين يدركون حاجة الفلاحين إلي الأموال يقرضونها لهم بسعر فائدة مرتفع يصل أحيانا إلي25%. وفي عام1830 وضعت الحكومة نهاية لمثل هذا الاستغلال, الذي سبب تدفق الأموال إلي التجار, وأعادت للزراع المبالغ التي دفعوها للتجار كفوائد. وحاولت الحكومة إيقاف ذلك, كما سجل دكتور أحمد الحتة في كتابه الهام تاريخ الزراعة المصرية في عهد محمد علي الكبير. ولم يكن لإصلاحات محمد علي أن تتم وبانضباط بدون يقظته وحرصه علي معرفة حقيقة ما يدور في البلاد, وهو ما يظهر من رسالة بعث بها لغيطاس أفندي الروزنامجي ينذره قائلا: رغم أوامري لك بأن ترسل تقارير عن كل شئ يحدث في أركان البلاد, تقارير خالية من أي كذب أو غش, حتي أستطيع أن أكون علي بينة من كل الأمور وأقوم الخطأ, وأهدي السبيل إلي الطريق القويم. فإذا كانت تخفي عني أي جانب من الأحداث, فإنك تكون بالتالي قد ازدريت المصلحة العامة, التي نعمل جميعا من أجلها. وإذا قمت بازدراء المصلحة العامة, فإنه من المحتم, قانونا وعقلا, أن تفصل من وظيفتك العمومية.