إحدي سمات مجتمع الشوارعيزم هي الجمل الناقصة, أو عدم إكمال نقاش علي نحو يفضي بأصحابه إلي شيء.وإحدي سمات ذلك المجتمع أيضا ربط أرجحية أية فكرة وقابليتها للتطور بالمركز الذي يحتله مطلقها في الجهاز الإداري والسياسي. أو في دوائر المال والأعمال, أو عضويته رهط الصحفيين والاعلاميين الذين يلعبون دورا كبيرا في تصنيع حالة الشوارعيزم, والذين يرتكزون في الأصل والأساس علي الجريدة الخاصة التي تنفذ مخطط هز الاستقرار وإثارة الفوضي منذ سنوات, من خلال ما ينشر فيها, أو يبث علي الفضائيات الخاصة التي يقوم باعداد برامجها السياسية, جميعا فريق من صحفيي تلك الجريدة. يعني.. لم نخبر منذ زمن معتبر, فكرة تبرز من وسط الناس أو مؤسسات المجتمع المدني أو التجمعات الثقافية, ثم يتاح لها أن تتحقق وتتفسر واقعا علي الأرض.. وإنما الفكرة لابد لكي تكتب لها الحياة أن يكون وراءها مسئول, أو رجل أعمال, ثم يبدأ أوركسترا الاعلام البديل في التهليل لها ولعبقرية من أطلقها. ومع ذلك فقد وجدت نفسي أمام فكرة أطلقها أحد الوزراء الاقتصاديين منذ سنوات ومع ذلك فطست, ولم يظهر لها حس أو خبر من حينها, ربما لأن مطلقها انصرف عن متابعتها إلي ظهوراته ونشاطاته.. تلك الفكرة تتعلق بالبراندينجBranding أو العلامة التجارية لمصر التي يمكننا من خلالها تصنيع صورة ذهنية لبلدنا تساعد علي تسويقه سياحيا وثقافيا, واقتصاديا, وربما سياسيا. وأذكر ضمن الرموز التي كانت مطروحة وقتها لتصبح ماركة مصرأو علامتها التجارية.. زهرة القطن, ولكن يبدو أن باحثي الموضوع تراجعوا عنها حين أدركوا أن السياسات الزراعية الحالية في مصر أفضت إلي إطاحة القطن من فوق عرشه, بحيث صار الفول الحراتي أكثر مكانة وهيبة وأهمية منه, إلا أن أحدا لا يتصور بالقطع أن يبيت الفول الحراتي رمزا لبلد!! نهايته.. لابد أن أحكي لكم بعضا من معني البراند وتاريخه, قبيل مواصلة الحديث عن المسارات الغامضة التي مشت فيها تلك الفكرة حتي تاهت ثم اختفت فيما يبدو الي غير رجعة. البراند هو العلامة التجارية لمنتج( بفتح التاء).. يعني هوية خدمة أو شكل دال علي نشاط, ويمكن أن تأخذ تلك العلامة عدة أشكال( اسم.. رسم.. رمز.. لون.. شعار.. أو عدة ألوان) البراند يؤثر علي شخصية السلعة, إذ بات هناك جانب نفسي يسهم في تخليق صورة السلعة أو الخدمة أو البلد, فكأنه الدال علي بناء رمزي في عقول الناس يتألف من كل المعلومات والتوقعات المرتبطة بالمنتج( بفتح التاء مرة أخري). وجاءت كلمة البراند من لفظة إسكندنافية تكافيء كلمةBURN أو يحرق, إذا كانت توميء الي عملية وسم الخراف والأبقار للدلالة علي أصحابها ومزارعها كما كانت وسيلة لتعليم المجرمين علي جلودهم لتسهيل الوصول إليهم, أولوصمهم بذنوبهم طوال العمر( ولعلكم تتذكرون جان فلجان بطل رواية البؤساء لفيكتور هوجو, والذي تعرض لوسم صدره باسمه, وكانت تلك وسيلة تعرف الضابط جافير عليه في نهاية ذلك العمل الأدبي الخالد.. وهي نفس الشخصية التي أداها المرحوم الأستاذ فريد شوقي في فيلم مصري تسمي فيه: حامد حمدان بدلا من جان فلجان)!! وكانت تجليات( البراندينج) في الولاياتالمتحدةالأمريكية عديدة منها ما حدث إبان الحرب الأهلية الأمريكية لما اختلطت قطعان الماشية بين الشمال والجنوب, فقرر الأهالي دمغ الحيوانات بأسياخ النار وبعلامات معينة بغية التفرقة بين ما ينتمي للشمال, وما يتبع الجنوب.. كما شهدت أمريكا إجتياحا واسعا( للبراندينج) في نهايات القرن ال91 حين ظهرت مصانع الإنتاج الكبير التي وجدت صعوبة في تسويق سلعها في مناطق يعرف أهلها البضائع المحلية, ولا يعرفون منتجات الصناعة الواسعة أو الإنتاج الكبير. وتطور الأمر علي نحو لافت في الأربعينيات حين ظهرت العلامات الشهيرةBrands مثل: مارلبورو و فيليب موريس و هاينز و كوكاكولا, وتلك الأخيرة بالذات صارت أنموذجا للحياة الأمريكية ولم تعد مجرد مشروب, وأذكر في عز أزمتنا السياسية الكبيرة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في منتصف الستينيات, ورفض الزعيم جمال عبد الناصر التفتيش الأمريكي علي منشآتنا النووية, ثم قرار الرئيس الأمريكي ليندون جونسون بقطع المعونة عن بلدنا( وهو ما رافقته قضية جاسوسية الأستاذ مصطفي أمين) أن قررت مصر ضمن إجراءات مقاطعة الشركات الأمريكية المتعاملة مع إسرائيل وقف إنتاج الكوكاكولا, وأنتجت مشروبا غازيا وطنيا بديلا باسم( مصر كولا) وبحيث بدا الأمر وكأنه حرب بين( براند) يمثل أمريكا, وبراند آخر يمثل مصر, وخصوصا أن مشروبنا حمل اسم بلدنا علي نحو مباشر! لا بل وتطورت المسألة إلي تحويل كل ما يمثل( براند) أمريكي إلي مادة للسخرية وبالذات في أفلام الأستاذ فؤاد المهندس( أخطر رجل في العالم) و( جناب السفير) سواء كان( البراند) صورة الكاوبوي أو اللبان( التشيكلتس أو غيرهما. إذ لا تقتصر الدول حين تخترع( براند) لاسمها علي تسويق نفسها سياحيا وثقافيا, واقتصاديا, ولكنها تروج لاسمها سياسيا كذلك. فحين أنظر إلي استعدادات بريطانيا لتنظيم دورة لندن الأوليمبية2102 أو محاولتها تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم عام6002, أجدها تستخدم متجر هارودز العملاق( براند) دالا علي البلد, ولكنها أيضا تعتبر برلمان وستمنستر( رمز ديمقراطيتها) إحدي ماركاتها. ويحسن هنا أن أذكر شيئا عن الصعود الدرامي لتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق والزعيم الأسبق لحزب العمال إلي سدة السلطة عام7991, وهو ما رافق مجموعة من التغييرات التاريخية في برنامج الحزب, وإطاره الفكري, وأسلوب عمله, لا بل حتي في الطرائق المتبعة لحملاته الدعائية الانتخابية, علي أيادي( الإصلاحيين/ التحديثيين)modernisers/reformers)) فقد طرح بلير شعار:(Cool-Britannia). أو بريطانيا الضاحكة البشوشة ليصبح ذلك الشعار( براند) يسم صعوده ويميزه, ويشير إلي أن بريطانيا القديمة المتجهمة قد تغيرت, وصار هناك بلد صاعد آخر. هذا عن الاستخدام السياسي, فأما عن الاستعمال السياحي والاقتصادي فيمكنني الإشارة بصدده إلي ماليزيا التي أطلقت حملة إعلانية لجذب السياح تحت شعار:(Malaizia-is-Trne-Asia) أو ماليزيا هي آسيا الحقيقية. كانت تلك هي الصورة التي تريد ماليزيا حفرها في أذهان الدنيا عن اسمها.. يعني الماركة الدالة علي البلد. كوريا الجنوبية هي الأخري استخدمت شعارDynamicKorea) أو كوريا المتحركة المفعمة بالحيوية( الملحلحة) لتسويق صورتها في ذهن العالم... واخترعت كذلك شعار:(Korea-Wave) محرضة من تخاطبهم أن يظلوا علي الموجة الكورية. وعلي أني من الذين يرون أن أسماء بعض الدول في ذاتها هي( براند) أو ماركة دالة عليها مثل مصر( التاريخ), أو ألمانيا( جودة الصناعة), أو البرازيل( رقصة السامبا وكرة القدم) فإنني كنت من المقتنعين جدا بضرورة تخليق( براند) لمصر يشير الي مستقبلها وليس الي تاريخها, والي ماينبغي تحقيقه أيضا في ذلك المستقبل أو نحلم به, إذ أننا أرهقنا تاريخنا بكثرة إتكائنا عليه, وأزهقنا أنفاس الأهرام باسراف استعمالنا لها, حتي فقدت معناها رويدا.. رويدا, وتآكلت هيبتها وتلاشي جلالها, ثم أسهمنا في مزيد ضياع لصورة الأهرام بالزحف المزدوج عبر بناء المساكن, وارتشاحات الصرف الصحي.. يعني دفناها وسط غابة خرسانية, وأغرقناها وسط مستنقع مجاري. نريد ماركة أخري, أو( براند) آخر, وعلي رموز المجتمع الأهلي, والمفكرين, ورجال الادارة المستنيرين أن يبحثوا لنا عنه, وعن وسائل تسويق( مصر) الجديدة, التي ينبغي ألا تكون ماركتها هي ماتنشره بعض الصحف الخاصة في صياغات مفعمة بالاعتمام, والتأزم والسوداوية, أو بعض ماتبثه الفضائيات الخاصة( التي يعد مادتها السياسية فريق جريدة خاصة بعينها صائغا صورة مصر علي أنها وطن للاستبداد والفقر والعشوائيات والجوع والفساد والفوضي وغياب القانون). أي نعم.. لدينا مشاكل كبري في كل من العناصر السابقة وانتقادات أكبر, ولكن صورة البلد أو( البراند) الدال عليها يجب أن يكون شيئا مشرقا يدفع للأمل.. أما أولئك الذين يغرقون البلد وشبابها الجديد في الكآبة عبر وسائطهم الصحفية والتليفزيونية, فهم يريدون( البراند) الذي يوميء إلي بلدنا شيئا موحيا بالإحباط, والذل, وكسرة النفس, والعجز, والفشل, والجهل. وإذا كان الوزير المتنفذ الذي أطلق فكرة( البراند) صرف النظر عن الموضوع وإذا كان الإعلام البديل يواصل سوداويته وبالذات في الجريدة الخاصة( التي يملكها رجل الأعمال بارون الصحافة, والتي يعد فريق منها كل البرامج السياسية في الفضائيات الخاصة لاعبا دورا خطيرا في دعم بعض رجال الإدارة/ الحكومة وتصعيدهم, وحصار البعض الآخر وخنقهم).. فإننا لم نصرف النظر عن الفكرة.. أو نتخلي عنها.. وسنواصل المطالبة بتحقيقها. نحن لا نبغي أن يكون( البراند) الدال علي بلدنا كما يريده بارون الإعلام الخاص, أو الميليشيا التي يطلقها علينا مسعورة عقورة, ولكننا مصممون أن نصير كما نبغي.. وكما نحلم.. وكما نقدر إن شاء الله تعالي.