يثير تقرير الحريات الدينية الذي صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية الكثير من التساؤلات أولها يتعلق بطبيعة التقرير والهدف من ورائه. ومن المعروف أن هناك تقارير حقوقية دولية عديدة منها ما يصدر عن مؤسسات غير حكومية ذات مصداقية عالية سواء في داخل أمريكا أو في خارجها. وجزء من هذه المصداقية يرجع بطبيعة الحال لما تتمتع به المؤسسات غير الحكومية من استقلال وما اكتسبته عبر نضالها الحقوقي الطويل من سمعة وتجرد. لكن التقرير الذي صدر أخيرا عن وزارة الخارجية الأمريكية لا يمكن النظر إليه بمعزل عن صفته الرسمية الحكومية. صحيح ان ما تضمنه التقرير في الكثير من أجزائه كتب بشكل احترافي ينم عن إطلاع واسع بواقع الحريات الدينية في شتي مناطق العالم, لكنه في النهاية تقرير رسمي لا بد أنه يتسم بالذكاء ويحرص علي إقامة التوازنات. والتقرير يثير العديد من الملاحظات والتأملات, ربما كان السمة المشتركة بينها أن التقرير أرضي الجميع من ناحية بقدر ما اغضبهم من ناحية أخري. فقد أغضب التقرير الأمريكي الدول الأوروبية حين اعتبر حظر ارتداء النقاب واستشراء روح العداء للإسلام من قبيل الممارسات المخالفة للحريات الدينية. وكان متوقعا أن يستثير مثل هذا الانتقاد الشعور الأوروبي بالكرامة الديموقراطية للبلدان الأوروبية المتهمة بهذه المخالفات. وهو ما حدث بالفعل مصحوبا بردود فعل غاضبة دعت دولة كفرنسا إلي القول بأنها لا تتلقي دروسا في حقوق الإنسان من أحد. والواقع أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تجد نفسها مضطرة حتي الآن لفرض قيود علي ارتداء النقاب علي الرغم من أن جراح الحادي عشر من سبتمبر لم تندمل بعد, وما زالت هناك خصوصية أمريكية تجعل المسلمين فيها هم الأقل تعرضا للقيود علي ممارسة شعائرهم الدينية مقارنة بالمجتمعات الغربية الأخري. وما زالت الثقافة الأنجلوسكسونية في أمريكا وبريطانيا وكندا واستراليا هي الأكثر قدرة حتي الآن علي استيعاب الحالة الإسلامية علي أراضيها واحتواء خصوصية الشعائر الإسلامية. ربما كان ذلك لأن هذه المجتمعات هي الأكثر بعدا جغرافيا من المجتمعات الإسلامية مقارنة بدول جنوب ووسط أوروبا. وربما لأن الأمر يتعلق بطبيعة الثقافة الأنجلوسكسونية نفسها والواقع الديموجرافي المعاصر لبلدانها وهي تضم لا سيما في أمريكا وكندا واستراليا أعدادا كبيرة من الجاليات المسلمة. الأمر المؤكد أن مبدأ احترام الحرية الدينية اكتسب بعدا محوريا في الثقافة والتاريخ الأمريكيين في أكبر دولة تزخر بالتنوع العرقي والثقافي في العالم. أما عن انتقادات التقرير الأمريكي للحريات الدينية في مواجهة المجتمعات الإسلامية والعربية فالحديث عنها مثير للجدل. ربما كانت هناك أوضاع سلبية أفضت إلي تمييز واقعي ضد بعض الإقليات والطوائف. لكن جزءا من الالتباس القائم حول هذه الأوضاع أننا لم نفرق بين أمور ينبغي التفرقة بينها. من ذلك مثلا أننا لا نفرق بما فيه الكفاية بين ما إذا كان التمييز قانونيا ومنهجيا وهو أمر مستبعد في الحالة المصرية وما إذا كان التمييز فعليا بحكم ممارسات إدارية غير ناضجة ولا متحضرة لم يترسخ لديها بعد ثقافة المساواة وتكافؤ الفرص, وهو واقع يمكن القول بوجوده علي نحو ما. لكننا نتجاهل أن هذا التمييز الواقعي يعاني منه المصريون مسلمين ومسيحيين معا. وهذا لا يعني قبول مثل هذا النوع من التمييز الواقعي ولا تبريره. وإنما يعني فقط تشخيص وضع قائم مؤداه أن دولة المواطنة التي ننشدها يفصلنا عنها واقع ثقافي واجتماعي بقدر ما هو سياسي. وأخطر ما في هذا الواقع هم المكون الثقافي حيث ما زال لاعتبارات الوساطة والعائلية والمحسوبية والمحاباة وكل فنون غواية الجهاز الإداري دور مهم في الحصول علي الحقوق والمناصب بأكثر مما لقواعد الجدارة ومعايير الاستحقاق. وهنا يتساوي بحكم الأمر الواقع المسلمون والمسيحيون معا. وجزء آخر من الالتباس القائم حول التمييز الواقعي لا القانوني ضد غير المسلمين في مصر مبعثه أيضا الخلط بين الأسباب التي أفضت لهذا التمييز وبين نتائجه. ويتجلي هذا الخلط علي وجه التحديد في مسألة ضعف التمثيل البرلماني لدي المصريين المسيحيين. فلعلنا لا نختلف حول أن أحد أهم أسباب هذا الضعف يكمن فيما عليه المصريون المسيحيون من سلبية وعزوف عن الاشتغال بالعمل العام. قد يري البعض أن هذا الذي نعتبره سببا في التمييز الواقعي هو في جوهره نتيجة للمناخ العام الذي يفتقد المصريون المسيحيون في ظله لتكافؤ الفرص في مواجهة المصريين المسلمين. ربما كان علينا أن نعترف بأن قطاعا واسعا من المصريين المسلمين لم يستقر في وعيه بعد وبما فيه الكفاية معني الدولة المدنية بقدر ما أن قطاعا كبيرا من المصريين المسيحيين يتسم بالتردد والسلبية فكان أن تراجع مفهوم المواطنة لدي الاثنين معا. ولعل الصراحة تقتضي أن نواجه معا السؤال التالي: ما الذي تغير في علاقة المسلمين بالمسيحيين خلال النصف الأول من القرن العشرين مقارنة بما آلت إليه أوضاعهم منذ سبعينيات القرن الماضي وحتي اليوم؟ هل نظام الحكم السياسي هو الذي يتحمل المسئولية؟ أم أن ثقافة المجتمع هي التي تغيرت فأحدثت الشقوق في جسد الأمة والشقاق في نفوس البعض ونثرت الشكوك والهواجس المتبادلة علي ضفتي النهر الخالد؟ أم تري أن المتربصين بهذا الوطن الذين يقلقهم تقدمه وقوته وازدهاره هم الذين يسعون إلي إثارة الفتن وإيقاظ الشكوك؟ أغلب الظن أن الإجابة تجمع قدرا من التفسيرات الثلاثة السابقة. فالدولة لم يقدر لها بعد أن تقدم مشروعا وطنيا جامعا علي الرغم من محاولاتها وحاجتها الملحة إلي مثل هذا المشروع. وما زال آخر مشروع وطني جامع عرفته مصر هو المشروع القومي الناصري بما له وما عليه. وعلي الرغم من أننا متفقون جميعا علي حاجتنا لمشروع وطني جامع قوامه عناصر ثلاثة أساسية هي التنمية, والتنوير, والمواطنة, وهو المشروع الكفيل تلقائيا بدعم لحمة المجتمع ووحدته الوطنية فالحاصل أننا لم ننجح بعد في حسن تقديم هذا المشروع للمصريين, وإثارة حماسهم له واستنفار قدراتهم حوله. وثقافة المجتمع مسئولة أيضا, وربما بدرجة أكبر من سلطة الدولة, عن دعم الوحدة الوطنية بين مسلميها ومسيحييها. فالمسلمون وعلي وجه التحديد تيارات الاسلام السياسي مطالبة بحسم موقفها العقدي والفكري في وضوح وشجاعة حول مفهوم المواطنة. والمسيحيون مدعوون بدورهم إلي درجة أكبر من الإيجابية والإقتناع بأن الاستقواء بالوطن لا بغيره هو ضرب من الذكاء والوطنية في آن معا. أما المتربصون بالوطن في الخارج وبعضهم قريب منا والبعض الآخر بعيد عنا فهم مسئولون بطبيعة الحال عن تأجيج شقاقنا وخلافنا لكن بقدر ما نمكنهم نحن من ذلك. وكل مؤامرة شريرة أوذكية لم تنجح علي مدي التاريخ إلا بسبب حماقة أو سذاجة من انطلت عليه!