لفت نظري منذ عدة أيام مقالان في الجرائد اللندنية, مقال في التايمز اليومية والآخر في الاوبزرفر الاسبوعية. وكان المقالان عرضا لكتاب صدر حديثا بقلم ساعي بريد, الكتاب عنوانه عزيزتي الجدة سميث وسميث هو الاسم الذي يطلق علي الانجليزي العادي. الكتاب لا تزيد صفحاته علي150 ولكنه اثار اهتماما كبيرا, خاصة انه صدر في الوقت الذي طالب فيه اتحاد سعاة البريد بالاضراب بسبب معارضتهم لبعض قرارات الادارة الجديدة لهيئة البريد ويطلق عليها اسمRoyalMail ويصف روبرت كرام الكتاب في الاوبزفر بأنه مرثية لعالم لم يعد له وجود, عالم كان ساعي البريد يعمل فيه ستة ايام في الاسبوع يبدأ الساعة4.45 صباحا في المقر المركزي للبريد, وفي حواره مع مؤلف الكتاب وهو يستعمل الاسم المستعار روي ميال يقول المؤلف ان يومه يبدأ بفرز الخطابات وترتيبها حسب المناطق اذ لكل ساع منطقة لا يغيرها, وبعد ذلك يرتب كل ساع خطاباته تبعا لاسماء الشوارع ثم أرقام البيوت.. وبعد ذلك يحمل الساعي حقيبة علي دراجته ويتوجه الي ما يطلق عليه اسم ركن من الجنة, حين يشاهد ذلك الضوء الجميل الذهبي للصباح الباكر, وينصت الي الطيور تصدح ولا يوجد في الشوارع الا انا وبائع اللبن وبعض اصحاب الكلاب الذين يروضون كلابهم وبعض الذين يركضون في تمريناتهم اليومية, لقد كنا سعداء في عالمنا هذا الذي نستخرج فيه ألوان الفجر وغناء الطيور.. ويستمر المؤلف في حديثه ان عندك الوقت, ليس فقط لانفسنا ولكن للآخرين, الوقت خدمة وخدمة ساعي البريد عالمية. ان الجدة سميث هي كل الناس الذين يجدون انفسهم في وضع صعب وحين تصعب الامور فماذا لديك, لديك ساعي البريد الذي يحمل البريد اليك, وهنا يذكر المؤلف قول الشاعر لاتركين ان ساعي البريد مثل الطبيب ينتقل من بيت الي بيت. والكتاب في صورة رسالة الي الجدة سميث, ومؤلفه كما يذكر لكرام خريج الجامعة وحين لم يجد له عملا بعد تخرجه تقدم بطلب للعمل كساعي بريد وبدأ عمله منذ اكثر من عشرين عاما, وهو يري ان دور ساعي البريد هو الخيط الذي يربط الامة. وساعي البريد التلقيدي ينظر الي البريد الملكيRoyalMail علي انه خدمة وليس وسيلة لكسب المال وهو يشعر بالفخر لقدرته علي الحديث مع عديد من الناس, حديث علي مشاكلهم وحياتهم ان الجدة سميث قد تكون وحيدة وبالنسبة لها فإن البريد هو شريان الحياة لها, وساعي البريد هو الشخص الوحيد في العالم الذي يفكر في هذه السيدة العجوز كل يوم ويذكر انه في احوال عديدة كان يستدعي عربات الاسعاف لمن يجدهم في حاجة اليها وقال ان احد زبائنه توفيت زوجته ولكن برغم ذلك استمرت الرسائل تصل باسمها مما سبب ألما كبيرا لزوجها, فما كان من ساعي البريد الا انه شطب اسمها عند فرز الخطابات وانقذ زوجها من الالم الذي كان يشعر به عند وصول كل خطاب ويقول هذه هي ميزة معرفة زبونك والشوارع والعناوين التي لا يعرفها الا ساعي البريد... ويقول المؤلف ان الكريسماس هي أهم وأحب فترات عملهم ودور البريد الملكي عظيم في تلك الفترة, فعن طريق كروت المعايدة يرتبط الناس بعضهم ببعض ويشعرون فيه بالترابط, ان هذه الكروت هي اساسا تذكر الآخر وساعي البريد هو الذي يحقق هذا انه جزء مهم من نسيج المجتمع الانجليزي. ويخاف سعاة البريد التقليدون من ان سعاة المستقبل.. سيكونون مجرد موصلي وحاملي رسائل ولن يكون لكل منهم منطقته الخاصة ومن ثم ستختفي تلك الصداقة التي تجمع بين ساعي البريد وزبائنه, انه سيحرم من دورته اليومية ومن تلك العلاقات الانسانية. وبعد ان قرأت ما جاء في المقالين عادت بي الذاكرة الي السنوات التي قضيتها في انجلترا, اثني عشر عاما عملت فيها سكرتيرا للمعهد المصري ثم ملحقا ثقافيا وعركت فيها فعلا دور ساعي البريد وخاصة في خارج لندن. واذكر حين سكنت في سوث وود فورد باسكي, علاقتنا بساعي البريد الذي كنا نراه كل يوم للسنوات التي قضياها هناك. حين عرف اننا من مصر طلب ان يقرأ عن بلدنا, وكنت في ذلك الوقت اصدر مجلة بالغة الانجليزية عنوانهاthebuiletin, فكنت اسلمها له كل شهر فيأتي بعد ذلك لمناقشة بعض ما جاء فيها بعد ان ينتهي من جولته علي بيوت الشارع. لقد عرف اسمي واسم زوجتي وابني حمدي, وكان عند مشاهدته يقول له كيف حال الرجل الصغير وقامت بينهما صداقة واذكر انه طلب مني أحتفظ له بطوابع البريد المصرية واستمرت علاقتنا به طوال إقامتنا في سوث وودفورد. لقد عرفت فعلا عن قرب دور البوسطجي اوPostie كما يطلقون عليه الاسم وأني أعرف الآن انهم علي حق في اضرابهم, لانه في وقت الشركات الكبري وبريد الاعلانات, والذي يطلق عليه المؤلف النقابات سينتهي الدور الانساني لساعي البريد, واني انشر فيما يلي ترجمة لجزء مما جاء في الكتاب الذي نشرته جريدة التايمز: نحن في حاجة الي الزمن, ليس فقط الزمن لانفسنا, بل الزمن للاخر, نحن نطلق عليك اسم الجدة سميث ويأتي هذا الاسم من الايام الخوالي لاننا كنا دائما هناك للجدة سميث. كان لدينا مفهوم الخدمة واذا كانت سيدة كبيرة السن لديها مشاكل كنا ننصت اليها. وأحيانا كنا نأخذ الجريدة الصباحية ونحن في طريقنا لتوزيع البريد ونسلمها لها او كنا نقوم بمشاوير اذا كانت في حاجة اليها. كنا ننصت الي شكاويها ومشاكلها, أخواها وما يقوم به احفادها وقد تقدم لنا الشاي الذي كنا نقبله احيانا. كنا شريان الحياة للجدة سميث, شخص تعرف انه سيصل كل يوم ويمكنك ان تضبط ساعتك علي موعد وصولة, دائما في نفس الشارع في نفس الوقت دائما نفس الساعي نفس الوجه المألوف, انه تقريبا جزء من العائلة واحيانا تعرف اسماءنا والا تطلق علينا اسم بوستيPostie وهو اسم يشعرنا بالكرامة.وهذا هو ما عليك ان تناديني به, كما يفعل الجميع. اتري هذا هو ما لا تعرفه الادارة الجديدة للبريد الملكي.. انهم يعتقدون اننا بزنس في السوق, مهمتنا ان نكسب وليس لي اي اعتراض علي المكسب. والذين لا يعرفونه اننا جزء من نسيج حياتنا الوطنية, اننا الخيط الذي يربط الامة ببعضها ننسج طريقنا من باب الي باب ليس فقط لحمل الاخبار بل لجلب الاستقرار والخدمة والثقة والراحة ووجه مألوف والوقت للانصاف اذا كانت هناك حاجة الي الانصات. الزمن, انكم تقولون ان الزمن هو النقود ولكني اقول ان الزمن هو الخدمة.. الزمن هو الانصات, الزمن هو ان تكون هناك في موعدك الزمن هو قضاء الوقت علي ما بهم, وعلي التبادل السريع للكلمات التي هي نفس الحياة نفسها, والاستمتاع بالفترة القصيرة والمشاركة في نفس الدواء, ومنح بعض الوقت قبل ان استمر في طريقي. ان الجدة سميث هي كل فرد, فكل فرد يسهل نقده في النهاية كل فرد هو ام شخص او ابوه او اخته او اخوه او عم او خال ان كل فرد يحتاج الي شخص اخر. ولكن اذا كنت وحيدا واذا كانت عائلتك قد ذهبت او انتقلت الي مكان اخر, فما الذي يبقي لك انه ساعي البريدpostie الذي يجلب لك الرسائل اتري! اني اعرف زبائني وهم يعرفونني وفي الايام الخوالي كان لدي الوقت لهم ومازلت لدي الوقت اني اصنع الوقت وان لم يعد هناك الاستمتاع بنسيم الصباح الباكر ولكن اذا كان هناك شخص في حاجة فإني سأعمل ما في طاقتي للمساعدة ان هذا لشيء انساني. وفي عرض للكتاب في الاوبزرفر يقول روبرت ماك روم: ان الانجليز يشعرون دائما بالحنين للارض ويذكرون دائما القصص الشعبية. وهذا الكتاب الذي لا تزيد عدد صفحاته علي150 بقطر ذلك الحنين للماضي احسن من الحاضر انه مرثية لعالم لم يعد له وجود, انه عالم ذهبي كل ما فيه سعيد, حيث يتوقف الوقت, ان المؤلف يشعر بالغضب للقضاء علي مؤسسة قديمة ومحترفة.