في أقل من دقيقة من الزمن انتقلت بفعل هذا العرض الذي شاهدته لك هذا الأسبوع من شارع قصر العيني بما يحمله من ضوضاء إلي منزل هاديء بديع يحيطه بعض من الغموض ساكن إلي حد ما إلا من أنامل تعزف علي البيانو. لتعيد المكان سنوات إلي الوراء مع أباطرة الموسيقي الكلاسيكية الذين يعيشون بفنهم حتي اليوم ويتدافع المواطن في معظم بلاد العالم إلي ارتياد الحفلات التي تقدم موسيقاهم الخالدة. نقلة سريعة وجميلة وتربط الإنسان بسرعة بالغة من مكان إلي آخر ومن عالم إلي آخر ومن زمن إلي آخر وبالطبع من حالة إلي حالة أخري. انها مسرحية قداس جنائزي لموتسارت التي شاهدتها لك هذا الاسبوع والتي يقدمها مسرح الشباب. العرض يتكامل من حيث الديكور لمدحت عبد المقصود فلا تكاد تري أي بهجة تصرف نظرك عن محتوي العمل.. مجرد ستاير سوداء وبيانو ومنضدة تتحرك من هنا إلي هناك. المخرج هو محمد أبو السعود الذي شارك في الاعداد الدرامي مع محمد صالح وكانت الرؤية الموسيقية لمحمد صالح حيث استمعنا بالفعل إلي عزف من أجزاء من سيمفونيات الموسيقار العالمي موتسارت قدمها لنا الممثل وهو أيضا محمد صالح. حركة ليست سريعة وأيضا ليست بطيئة مملة تلك التي اعتمد عليها المخرج الذي قدم لنا هذه التحفة المسرحية في أقل من ساعة زمنية. استشعر أن احساس المخرج بما يقدمه عن هذا الموسيقار الكبير بما حباه الله من موهبة ربما أوغرت صدور الحاقدين.. يقدمه بإحساس الفنان الذي يموت جسدا بينما عمله وفنه وموسيقاه تعيش لأجيال وأجيال. فالموهبة حتما ستصل للمواطن يستمتع بها مهما وقف ضده حاقد أو حاسد فالموهبة أكبر من كل هذا وذاك وهذا ما تحكيه لنا حكاية موتسارت. عمل يختلف عن الكثير عما شاهدناه علي خشبة المسرح في نعومة يتخلل منها إلي وجدان المتلقي ليعيش في دنيا أخري وعالم آخر. هي ربما تكون أولي تجارب مسرح الشباب بعد تعيين الفنان المخرج شادي سرور مديرا له وشادي ليس مخرجا فقط ولكن ممثل أيضا, شاهدت له أكثر من عمل متميز علي مسرح الطليعة. اختياره لمحمد أبو السعود كان اختيارا يدل علي فطنة وذكاء في عالم المسرح فمحمد أبو السعود شاهدت له أكثر من تجربة مسرحية ناجحة بل ومختلفة عن باقي المسرحيات من أول عرض شاهدته له في مسرح الهناجر وهو مسرحية البلكونة. اعتمد المخرج هنا علي أزياء مصممة لتناسب هذا العصر القديم بمنتهي الدقة والملابس في مثل هذه العروض لها أهمية بالغة فلا أنسي ضعف مستوي أحد العروض الكلاسيكية العالمية عندما شاهدت البطلة ترتدي اكسسوارا أي حلقا وأساور من البلاستيك التي نستخدمها حاليا مع ملابسنا المعاصرة.. كان لهذه الاكسسوارات الحديثة أبلغ الأثر في ضياع جهد وقيمة عمل فني كلاسيكي عالمي برغم بعض الجهد من جانب الأبطال. هنا الاكسسوار والملابس هي بالضبط ما ترجع به إلي عصر الفنان الموسيقار العالمي موتسارت فماذا عن الممثلين؟ لدينا ثلاثة فقط.. محمد صالح في دور ساليري الحاقد بعنف مع موهبة موتسارت ليقدم لنا أوجاع من لا يحترم ارادة الخالق في أن يودع الموهبة من أراد. قدم محمد صالح الدور بإحساس داخلي واضح أنه احتشد له بكل قدراته التي وضحت لنا بأنها قدرات أدائية متميزة. أمامه محمد شندي في دور الحارس قدم أيضا دوره بالصورة المطلوبة, أمامهما كانت اليكساندرا بازياك في دور شبح موتسارت التي برعت في أدائها الحركي الذي جسدت من خلاله موتسارت بعبقريته والتي تستشعر من خلالها ذلك السمو الذي يعيشه الفنان أو الخلود الذي منحته له هبة السماء التي لا يستطيع أحد إلا أن يحترمها. الموسيقي بالطبع كانت حية بمعني تعزف أمامنا من البطل والبطلة علي البيانو الذي شارك البطلين في العمل من خلال فقرة أدائية للتمثيل ثم فقرة للعزف علي البيانو. المهم أن لدينا بالفعل طاقات جديدة في المسرح.. لدينا مواهب لها قيمتها لكن اجدانها لم تحصل علي فرصها بما يتناسب مع مواهبها. محمد أبو السعود من تلك المواهب التي انتظر أن تستثمر أكثر فهو احساس مرهف ورؤية جديدة ونافذة. تحية لمسرح الشباب الذي كانت بداية انطلاقة من خلال المبدع خالد جلال ثم هشام عطوة ثم حاليا شادي سرور.