يمثل الحفاظ علي قوة واستقرار الجهاز المصرفي هدفا تسعي إليه جميع الدول والمؤسسات المالية الدولية, وعلي رأسها بنك التسويات الدولية الذي تواصلت جهوده من خلال لجنة بازل للرقابة المصرفية في هذا الشأن منذ ثمانينيات القرن الماضي, أصدر خلالها أول النصوص عام1988 المعروف ب بازل1, ثم أتبعه عام2004 بالاتفاقية الدولية لقياس رأس المال ومعايير رأس المال المعروفة باسم بازل2, التي صدرت بغرض تقوية ودعم القطاع المالي والمصرفي من خلال تحسين سياسات وممارسات إدارة المخاطر وإدارة رأسمال البنوك. واستمرت تلك الجهود لملاحقة المستجدات والمخاطر بالعمل المصرفي, وكان آخرها في سبتمبر2010, حيث أعلنت لجنة بازل اعتمادها لاتفاقية جديدة أطلق عليها بطريقة غير رسمية بازل3, تعزز نسبة الموارد الذاتية للبنوك التي تعتبر من أهم المعايير المعتمدة لقياس المتانة المالية للبنوك, وبموجبها ضمن مقررات أخري ترفع الشريحة الأولي من رأس المال من2% إلي4.5% من إجمالي الأصول المرجحة بأوزان المخاطر, مع تخصيص جزء نسبته2.5% لتلقي الصدمات ليصبح إجمالي النسبة المطلوبة7%, وستعرض علي قادة دول مجموعة العشرين الذين سيجتمعون في نوفمبر المقبل بالعاصمة الكورية سيول للموافقة عليها. ولكن هل يعتبر الالتزام بمقررات بازل كافيا لضمان قوة واستقرار الجهاز المصرفي في الدول ذات الاقتصادات الناشئة ومنها مصر, وسبب طرح السؤال هو عدم تعرض اتفاقات بازل لأوضاع البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأخذها كأمور مسلم بها, بالرغم من اختلاف تلك الأوضاع بين الدول الأكثر تقدما اقتصاديا والدول ذات الاقتصادات الناشئة. لاشك أن الالتزام بهذه المعايير يرتقي بمستويات قوة واستقرار البنوك, أيا كانت الدولة التي يمارس البنك نشاطه فيها, ومثلها في ذلك مثل الدواء الذي يسري مفعوله علي المريض المقيم بالولايات المتحدة, أو ذلك المقيم بالهند مثلا, وبالمثل, فإن البنوك بأي من البلدين المذكورين كأمثلة, وإن اختلفت في مستوي الأداء وقوة المركز المالي والتاريخ المهني, فإن لها نفس التركيب والخصائص, بما يسمح بسريان مفعول اتفاقات بازل أو غيرها من القواعد الفنية. لكن اختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في الدولة التي تمارس فيها البنوك أعمالها يؤثر علي مستوي قوتها وسلامتها, فعلي سبيل المثال, فإن أحد أهم أصول البنك, والتي كثيرا ما تكون السبب الرئيسي لخسائر البنوك, وهي القروض تعتمد جودتها إلي حد بعيد علي نوعية العملاء المقترضين ونوعية المشروعات التي توجه إليها, فإما تتسم بالجدية والرغبة والقدرة علي السداد, أو لا تتوافر فيها هذه العناصر بدرجة أو بأخري, وصحيح أن البنك المقرض مسئول عن الاختيار والمفاضلة بين راغبي الاقتراض, فإن السياسات والأولويات العامة للدولة تنشئ مناخا عاما يؤثر بقوة علي نوعية رجال الأعمال ونوعية مشروعاتهم, التي تمثل نتاجا طبيعيا لتلك السياسات والتوجهات, الأمر الذي يفرض علي البنوك أمرا واقعا يحصر خياراتها ما بين السيئ والأسوأ والأقل سوءا, إذا لم تتسم تلك السياسات والتوجهات بالجدية والنزاهة والرغبة الحقيقية في المصلحة العامة. ويتصل بذلك الضغوط السياسية لإقراض أشخاص معينين دون مراعاة جداراتهم الائتمانية, وهو ما يؤدي إلي ما يسمي بالائتمان الموجه سياسيا, والذي ينتهي عادة بمشاكل كبيرة تصل أحيانا إلي حد تهديد بقاء البنوك المنخرطة في مثل هذا الائتمان, الأمر الذي غالبا ما تجد معه السلطات السياسية التي أوعزت بذلك الائتمان نفسها مضطرة لمساندة تلك البنوك, تفاديا لضرر أكبر للاقتصاد ككل. ويمثل المستوي العام للنزاهة والشفافية في الدولة عاملا مؤثرا آخر, فكلما ارتفع ذلك المستوي تحسنت فرص البنك في القيام بعمليات مصرفية آمنة والعكس صحيح, فقرارات البنك الخاصة بالائتمان والاستثمار, تستند جزئيا إلي بيانات وأرقام صادرة من الجهات الحكومية المختصة, خاصة تلك التي لا يمكن استكمالها أو الاستعاضة عنها بالبيانات الصادرة من المؤسسات الاقتصادية الدولية, ومن أمثلتها الإنفاق الحكومي علي مشروع أو سلعة معينة, والدعم المقدم لبعض المؤسسات العامة أو الخاصة والاحتياطيات المتوافرة من سلع معينة, والاحتياطيات من المعادن المكتشفة وأسعار الأصول المملوكة للدولة المطروحة للبيع وغيرها. ويؤثر مستوي النزاهة والشفافية كذلك علي تعاملات البنوك المباشرة وغير المباشرة مع مؤسسات الدولة, ففي التعامل المباشر قد تنشأ علاقة تعامل مع أحد مؤسسات الدولة بطريقة لا تضع في المقام الأول مصلحة الطرفين, مما قد يؤدي إلي آثار سلبية مادية أو معنوية علي البنك, وفي التعامل غير المباشر من خلال عملاء البنك قد يتم فرض ضرائب أو غرامات علي أنشطة العملاء بطريقة تفتقر إلي النزاهة سواء بالترخص أو بالتزيد, مما يؤدي إلي إظهار مركز المشروع علي غير حقيقته, وبالتالي الإفراط في منح الائتمان أو الإحجام عنه علي أسس غير سليمة. وأيضا, فإن الانصياع للقانون ونزاهة القضاء والقدرة علي تطبيق أحكامه كلها عوامل مؤثرة علي أداء البنك لأعماله التي هي في جانب منها عبارة عن تعاقدات من العملاء, وأطراف أخري تلجأ غالبا لقضاء الدولة عند الحاجة, وبالتالي تتأثر قدرة البنك علي الأداء الآمن بكفاءة الجهاز القضائي. والخلاصة أن هناك مصدرين اثنين لقوة واستقرارالجهاز المصرفي الأول هو القوة الذاتية للمصارف, والتي تمثل اتفاقات بازل أحد دعائمها الرئيسية, والثاني هو المناخ العام الذي يفرزه الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للدولة, ولا يكفي أحد هذين المصدرين لتحقيق القوة والاستقرار للجهاز المصرفي, وعليه فإن الالتزام بمقررات بازل يعتبر شرطا لازما, ولكن غير كاف لتحقيق قوة واستقرار الجهاز المصرفي.