كان المفروض أن يبدأ التليفزيون بثه منتصف خمسينيات القرن الماضي, ولكن المعارك التي خاضتها مصر وخاصة بعد تأميمها قناة السويس لتبني السد العالي وشن العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الاسرائيلي عليها. * تسبب في تأجيل إنشاء التليفزيون لعدة سنوات ليجري التفكير في بدء بثه بمجرد تفجير أول شحنة ديناميت في أسوان يوم9 يناير سنة1960 لنسف نحو20 ألف طن من الصخور كدفعة أولي لتحويل مجري نهر النيل لأول مر ة في تاريخه تمهيدا لبناء السد العالي. فمع وهج التفجيرات اتخذ الرئيس عبد الناصر قراره بأن يبدأ التليفزيون المصري بثه خلال الاحتفال بعيد الثورة في23 يوليو أي بعد نحو6 شهور من البدء في تفجير الجبل في أسوان خاصة أن الدراسات الخاصة بالتليفزيون كانت معدة وكان هناك إذاعيون قد تم تفريغهم منذ عام59 للعمل بالتلفزيون, وكانن هذا التحديد المفاجئ لموعد افتتاح التليفزيون نابعا من الرغبة في أن يتابع المصريون علي شاشاته العمل في بناء المشروع الذي تحدت مصر من أجله القوي الكبري. وكما أسهم التليفزيون بقوة في تحويل مصر وناسها بعد سنين قليلة من بدء إرساله الي دنيا مختلفة تماما, عما كانت عليه قبلها وظل هذا التغيير يتزايد مع مرور السنين وتطور فنون التليفزيون ووسائله وتحوله من بث محلي الي ارسال دولي من خلال الأقمار الصناعية, فإن السد العالي الذي أطلق شرارته الأولي وتابع مراحل بنائه جمال عبد الناصر والتي استمرت لأكثر من11 سنة, ثم افتتحه السادات في يناير1971, أحدث تحولات كثيرة في مجالات الزراعة والصناعة والكهرباء في مصر بتحويله ري الحياض إلي ري دائم وبزيادته وبزيادته للرقعة الزراعية بنحو2 مليون فدان وبتوفير طاقة كهربائية كبري مما ساعد علي تغيير الحياة في مصر بالكامل, كما أن السد العالي قد حمي مصر من الجفاف الذي ضرب عديدا من الدول الافريقية خلال السنوات العشر الأخيرة وذلك بعد أن تحقق بهذا السد الذي يعتبر الاضخم تكوين أكبر بحيرة صناعية في العالم, كما أنه حماها أيضا من مخاطر الفيضانات العالية. نعم لقد غير السد العالي مصر تماما, وكان بناؤه ملحمة وطنية, وكان المشروع القومي رمزا مهما من رموز الكرامة المصرية لعدة عقود ولايزال العنوان والمثال لما تستطيعه الإرادة الوطنية, اذا صحت عزيمتها في عدم الرضوخ للقوي العظمي, ولقد خلدت مختلف الفنون ملحمة بناء السد العالي وبينها فنون الموسيقي والغناء والسينما والأوبرا والفنون التشكيلية من تصوير ونحت وحفر. أما التليفزيون فإنه حقق لمصر انفتاحا اعلاميا وثقافيا, وأفاد خاصة في سنينه الأولي في مجالات التوعية والتربية والتثقيف والاعلام الوطني والقومي جانب الترفيه الملتزم غالبا بقيم المجتمع ثم استطاع التليفزيون ان يحول العالم الي قرية صغيرة خاصة بعد ان أصبح البث المرئي دوليا علي الهواء. أي أصبحت الدنيا كلها تري ما يحدث في أي بقعة منها في نفس اللحظة, لقد غير التليفزيون الدنيا كثيرا منذ بداياته خاصة في عالمنا العربي حيث أصبح له السبق علي غيره من وسائل الاتصال وأدواته. وبذلك تراجعت الزراعة المسموعة( الراديو( والصحافة والسينما والكتاب, فقد أصبح هو صاحب السلطة الأكبر والاقوي في قرض القيم والمفاهيم بالنسبة للأجيال الجديدة.. وأمامه تراجع دور الأسرة والمدرسة بسائر المؤسسات التربوية, وهي خطورة تزايدت أخيرا خاصة بعد أن أصبح ما يبثه غير خاضع للرقابة أو توجيه ومفتقدا للسيطرة والتحكم الذي يجب أن يظل لصالح قيم وتقاليد يجب ألا نتخلي عنها. ثم, نقول ونحن نعيش العيد الذهبي للإذاعة المرئية, إنه مطلوب شئ من المراجعة خاصة والفضائيات تنتافس في بث ما تجذب به المشاهدين اليها بالكثير مما يخلو من القيمة والافادة, مع مراعاة ان عالمنا لايزال في مرحلة التنمية ويحتاج الي وعي انبائه ويقظتهم. ليتنا نعيد للبث المرئي شيئا من التعقل كان له قبل أن ينطلق التنافس غير الواعي بأهمية المحاذير والضوابط في زمن شديد الانفلات اعلاميا. إن العيد الذهبي وقد أصبحنا علي أبوابه فرصة يجب انتهازها لمناقشة ما يجب أن يكون عليه البث المرئي بعد أن ضل الطريق بحجة الحرية الإعلامية؟.