الامام أحمد بن حنبل هو رابع الأئمة الذين لهم مذاهب وآراء انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها وصفه معاصروه ومن جاء بعدهم من الاخيار بصفات جليلة وصفوه بأنه: إمام دار السلام وعالم السنة, وزاهد عصره, وقدوة أهل العفاف, والصابر المحتسب. ولقد صدر شيخ مشايخنا الإمام محمد أبوزهرة رحمه الله كتابه عن الإمام أحمد بقوله: قال أبو ثور: لو أن رجلا قال إن أحمد بن حنبل من أهل الجنة ما عنف علي ذلك. وذاك لأنه لو قصد بلاد خراسان ونواحيها: لقالوا: أحمد بن حنبل رجل صالح, وكذلك لو قصد العراق ونواحيها لقالوا: أحمد بن حنبل رجل صالح. فهذا اجماع. وقال عنه الشيخ رشيد رضا صاحب تفسير المنار رحمه الله إن الإمام أحمد بن حنبل مجدد القرن الثالث. *** مولده ونسبه: والإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ولد في شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين بعد المائة ذكر بعض الكاتبين أن أباه سافر ومعه زوجته من مدينة) مرو( التي كان يقيم بها, إلي مدينة بغداد والإمام أحمد في ذلك الوقت كان جنينا في بطن أمه, فكانت ولادة الإمام أحمد في بغداد, وهو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبدالله, بن حيان.. بن مازن بن شيبان. ويلتقي الإمام أحمد في نسبه مع النبي صلي الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان. ووالد الإمام أحمد كان من المجاهدين الغزاه, بل إن بعضهم قال: إن والده كان قائدا من قادة الجند, وما خلع زي الغزاة إلي أن فارق الحياة, وهو في سن الثلاثين وترك ابنه أحمد وهو طفل صغير. وقد تولت والدته تربيته, وكان أبوه قد ترك له عقارا يسكنه, وعقارا آخر يغل له الكفاف من العيش ووالدة أحمد كانت سيدة عاقلة حازمة اسمها) صفية( من قبيلة شيبان أيضا. وكانت قبيلة شيبان تسكن البصرة, وكان الإمام أحمد إذا زار مدينة البصرة صلي في مسجد بني شيبان وقال: هذا مسجد أجدادي. وقد اشتهرت نسبة الإمام أحمد إلي جده حنبل, لأن هذا الجد كان في عهد الدولة الأموية من ولادتها علي بلده سرخس التابعة لمدينة خراسان فكان جده حنبل أشهر من أبيه محمد ولذلك قيل أحمد بن جنبل. والخلاصة أن الإمام أحمد عربي شيباني الأب والأم والجد, وقبيلة شيبان كان منها الصحابي الجليل المثني بن حارثة, الذي تولي قيادة الجيوش الإسلامية لفتح العراق في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن هذه الأسرة الكريمة, نشأ الإمام أحمد مفطورا علي عزة النفس, وعلي قوة العزم, وعلي احتمال المكاره, وعلي الصبر الجميل, وعلي الإيمان العميق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقد نشأ رحمه الله في العصر العباسي الذي تغلب فيه العنصر الفارسي علي العنصر العربي, والذي كثرت فيه المنازعات علي ولاية العهد, وتنوعت فيه الطوائف والنحل, وكان أشهرها طائفة المعتزلة التي كانت لها الكلمة المسموعة عند عدد من الخلفاء العباسيين, من أشهرهم المأمون بن هارون الرشيد. كما كثرت في ذلك العصر المناظرات, والمساجلات, والتراجم, والمؤلفات, في شتي ألوان العلوم والفنون. كما اتسع في ذلك العصر نطاق الفقه, ووضع فيه الإمام الشافعي علم أصول الفقه, وأخذت فيه علوم القرآن والحديث طريقها إلي الذيوع والانتشار. *** نشأته العلمية: نشأ الإمام أحمد في أحضان أم فاضلة حازمة, غرست فيه منذ صغره مكارم الأخلاق, وعلو الهمة, وعزة النفس, وحب العلم. نشأ في تلك الأسرة الكريمة التي كانت فقيرة في المال, إلا أنها كانت غنية بنسبها الرفيع. والنشأة الفقيرة مع النسب الرفيع تجعل صاحبها كما يقول الحكماء ينشأ علي خلق كريم, ومسلك قويم, ويسعي إلي المجد بعزيمة عالية, وبصبر جميل علي تحمل أعباء الحياة وآلامها ومتاعبها.. كما تجعل صاحبها يكون أكثر إحساسا بمن حوله ممن يشبهونه في قلة المال, وأكثر اندماجا في أوساطهم, وفي التعرف علي أحوالهم وفي الشعور بشعورهم. لقد مرت علي الإمام أحمد بن حنبل في مطلع حياته فترات عصيبة قاسية فيما يتعلق بضرورات الحياة المادية. هذه الفترات اضطرته إلي القيام بتعلم حرفة تساعده علي ما يغنيه عن السؤال.. فكان كما يقول المؤرخون عنه: إذا ضاق به الحال أجر نفسه تارة عند صانعي الثياب, وتارة عند الزراع لجمع محاصيلهم من الزراعة, وتارة يكتب الرسائل لمن لا يحسن الكتابة إلي غيره في نظير أجر متواضع. نشأ رحمه الله في تلك الأسرة الفقيرة, ترعاه أمه بكل معاني الرعاية الكريمة, وكانت لها مكانتها السامية في نفس ابنها الذي لمست فيه حبه لها واحترامه لمكانتها, وطاعته لأوامرها, ولمست فيه أيضا النجابة, والذكاء, والفصاحة والتحلي بمكارم الأخلاق, ولمست فيه عشقه للعلم, فشجعته علي ذلك, كما شجعه أيضا علي طلب العلم بعض أفراد أسرته. نشأ الإمام أحمد في بغداد, وفتح عينيه في صباه علي مدينة امتلأت بأناس اختلفت مشاربهم, وتنوعت مطالبهم, واجتمعت فيها ألوان من المعارف والفنون. لقد كانت بغداد في ذلك الوقت حاضرة من حواضر العالم الإسلامي, توافر فيها القراء والمحدثون, وعلماء اللغة والفلاسفة والحكماء والشعراء. وقد اختارت له أمه وأسرته أن يكون من المتفقهين في الدين, وفي حفظ القرآن الكريم, وفي دراسة السنة النبوية المطهرة, وفي معرفته مآثر الصحابة والتابعين. وقد صادف هذا الاختيار سرورا في نفسه, واستعدادا في عقله, وقوة في عزمه, وغاية تصبوا إليها همته العالية, وفطرته النقية, وعقيدته السوية.