أتي في المادة الأولي من الدستور المصري أن مصر جزء من الأمة العربية وتعمل علي وحدتها; وهكذا أتي كتاب السياسة والقانون في مصر بفريضة لها صفة مبدئية تحدد الهوية من جانب, وعملية تجعل تحقيق الهدف سياسة مصرية من جانب آخر. وبينما كان الجانب المبدئي لا يشكل معضلة كبري سواء لأن مصر لغتها العربية, أو لأنها واقعة أرادت أو لم ترد في إقليم عربي, أو لأن تاريخها الطويل رغم تقلب الأزمان كان مكونا من تفاعلات جرت مع الكيانات العربية الأخري; فإن الجانب العملي مثل حقيقة مرهقة. وكان الجانب الأول هو ما صار في أدبيات القوميين العرب من المصريين تحت مفهوم ضرورات الجغرافيا والتاريخ, وما جري في مفاهيم الإستراتيجية المصرية تحت عنوان الأمن القومي العربي; أما الجانب الثاني فقد انطوي علي حقائق مؤلمة. وبرغم أن هذه المفاهيم تصادمت أحيانا مع الاتجاه المتوسطي للهوية المصرية التي رأت في مصر جزءا من الحضارة الغربية علي الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط بعد أن بات معلوما العلاقة بين الحضارة المصرية القديمة, والحضارات الهيلينية والرومانية التالية عليها; إلا أن الواقع المصري كان علي الأقل منذ قرب نهاية الحرب العالمية الثانية قد اتجه نحو العالم العربي لكي يربط مصير مصر به. وكانت نقطة البداية في القاهرة عندما تم إنشاء جامعة الدول العربية في22 مارس1945, أي قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية, وقبل أن يفكر أحد في إقامة الاتحاد الأوروبي, وعندما انعقدت القمة العربية الأولي في أنشاص في28 مايو1946 صار الأمر كله علي ما واجهه من عقبات معبرا عن حقائق سيادية. بعد ذلك مرت رياح كثيرة بالصحراوات العربية, انعقدت فيها35 قمة ما بين عادية وطارئة وغير اعتيادية حسب ما كان من مسميات, وبرزت فيها تحديات كبري ظهر أغلبها في علاقات العرب مع دول الجوار, وفي كل الأوقات كان صراعهم مع إسرائيل سببا للوحدة والخلاف معا. ولم تسلم الفكرة العابرة للوحدات السياسية الوطنية القطرية من تحدي فكرة أخري عبرت هي الأخري حدود عالم آخر متعدد الوطنيات تبنته جماعات سياسية إسلامية رأت في وحدة الدين ما يفوق وحدة القومية. وفي وقت من الأوقات بدت الخلافة السنية هي جوهر العروبة وأصلها, وهو الذي سرعان ما خلق حالة من الاغتراب لدي غير المسلمين من ناحية, وحالة أخري من الابتعاد لدي أنصار المذهب الشيعي من ناحية أخري. وفي كل الأحوال فإنه بعد عقد واحد من بداية القرن الحادي والعشرين فإن العالم العربي يبدو وكأنه قد فقد بلدين مهمين كانت فكرة العروبة جزءا أساسيا من مكوناتهما وهما العراق الذي كان التخلي عن الفكر القومي العربي شرطا أساسيا لبقائه موحدا; والآخر كان السودان الذي فشل حتي الآن في إقناع الجنوبيين بأن عروبة البلاد لا تمنع بقاء وحدتها, وبقي الخلاف كبيرا حتي بات الانفصال هو أكثر الاختيارات ترجيحا. وعلي أي الأحوال فإنه رغم مرور أكثر من ستة عقود ونصف عقد علي إنشائها, مازالت جامعة الدول العربية هي الكيان الوحيد الباقي الذي يعبر عن وجود رابطة سياسية من نوع ما تربط بين الدول العربية وبعضها وتجعلهم حقيقة أو خيالا يرتبطون في بيت واحد رغم ما واجهته من نفس التحديات التي تتعلق بهيكل النظام الإقليمي العربي والأزمات المنبثقة عنه. وأكثر من ذلك ظلت الجامعة تتصاعد في أنشطتها مع تطور عملها, وظلت قائمة حتي الوقت الراهن رغم كل ما عصف بها من خلافات, الأمر الذي دعا إلي طرح أفكار ومطالبات حول ضرورة إصلاح الجامعة وإعادة هيكلتها علي نحو يضمن فاعليتها ومراجعة السياسات الماضية, والبدء في تطبيق أساليب عمل جديدة. بمعني آخر فإن قضية الجامعة لم تعد لها علاقة بخلل في فكرتها, وإنما أصبح الأمر راجعا إلي مدي كفاءة الآلية التي تعمل بها, حيث إن ميثاق الجامعة لم يجر عليه تعديل إلا في صورة ملحقين أضيفا إليه في صورة بروتوكول خاص بإقرار اتفاقية الدفاع العربي المشترك التي وقعت عام1950, وبروتوكول وقع عام2000 خاص بقرار عقد القمة العربية كل عام أو ما عرف بدورية انعقاد القمة. وفي هذا الإطار, تعقد القمة العربية الاستثنائية بمدينة سرت الليبية خلال الفترة من8 إلي10 أكتوبر الحالي, حيث تتواكب مع عقد القمة العربية الأفريقية الثانية التي تستضيفها سرت أيضا, بحضور ممثلين عن60 دولة عربية وإفريقية, وتناقش مشروع استراتيجية الشراكة العربية الإفريقية, علي المستويات السياسية والاقتصادية والتنموية والثقافية. في حين تناقش القمة العربية جدول أعمال يتضمن بندين أساسيين: أولهما, مشروع الهيكل الجديد لجامعة الدول العربية والأجهزة الرئيسية التابعة لها الذي تقدمت به اللجنة الخماسية الرئاسية, المؤلفة من مصر باعتبارها كبري الدول العربية وليبيا الرئيسة الحالية للقمة العربية وقطر الرئيسة السابقة للقمة العربية والعراق الرئيسة القادمة للقمة العربية واليمن صاحبة مقترح اتحاد الدول العربية, حيث انتهت القمة الخماسية التي استضافتها ليبيا في نهاية يونيو الماضي إلي ضرورة إحداث ذلك التطوير. أما البند الثاني فهو دراسة مبادرة أو مذكرة الأمين العام لجامعة الدول العربية التي طرحها في قمة سرت في مارس الماضي بشأن إنشاء رابطة تضم الدول العربية مع الدول المجاورة لها في إفريقيا وآسيا وأوروبا. ولمن لا يعرف فقد صدر عن قمة طرابلس الخماسية في يونيو الماضي17 توصية لتطوير منظومة العمل العربي المشترك, وضعت في الاعتبار استيعاب المقترحات والمبادرات التي قدمتها16 دولة عربية, ومن أبرزها: عقد القمة العربية مرتين في العام; قمة عادية وأخري تشاورية تعقد في دولة المقر أي في مصر, وعقد قمم عربية نوعية تكرس لبحث مجالات محددة علي غرار القمة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والثقافية مثل عقد قمة للنهوض بالتعليم والبحث العلمي, وإنشاء مجلس تنفيذي علي مستوي رؤساء الحكومات يتولي الإشراف علي تنفيذ قرارات القمة العربية والمتعلقة بالمجالات التنموية, وكذلك مسئولية الإشراف علي أنشطة وبرامج المنظمات المتخصصة والمجالس الوزارية القطاعية, وإقامة مجلس لوزراء الاقتصاد والتجارة, وكذلك بحث الحاجة لإقامة مجالس وزارية قطاعية أخري مثل مجلس لوزراء المالية والاستثمار, والإسراع في اتخاذ الخطوات اللازمة لإقرار النظام الأساسي للبرلمان العربي الدائم, وتكليف وزراء الخارجية والعدل العرب بإعادة دراسة النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية, وتكليف الأمانة العامة بتقديم نشاطات وبرامج منظمات العمل العربي المشترك والمجالس الوزارية المتخصصة لضمان فاعلية هذه الآليات والتنسيق فيما بينها بما يسمح بالتركيز علي المشروعات القومية التي تعود بالنفع علي المواطن العربي. وتبحث هذه القمة أيضا في التوصيات الصادرة عن قمة سرت الماضية, وخاصة فيما يتعلق بإعادة تشكيل مجلس السلم والأمن العربي بما يضمن فعاليته وزيادة عدد الأعضاء مع مراعاة التوازن الجغرافي عند تشكيله وتوسيع مهامه وإقامة الآليات المنصوص عليها في نظامه الأساسي, وقيام الدول العربية بتأهيل مفرزة في قواتها المسلحة للمساهمة في عمليات حفظ السلام, واعتماد نظام المفوضين في عمل الجامعة العربية علي أن يصبح أمينها العام رئيس المفوضية العربية ويعاونه عدد من المفوضين يشرف كل منهم علي قطاع محدد: الشئون الخارجية وشئون الدفاع وشئون الأمن والشئون الاقتصادية والتجارية وشئون الطاقة والقطاعات الاقتصادية الخدمية وشئون الزراعة والمياه والبيئة والشئون الاجتماعية وشئون التعليم والبحث العلمي والثقافة والإعلام العربي والشئون القانونية والمجتمع المدني. ودعت تلك التوصيات أيضا إلي إنشاء جهاز تنسيقي عربي للإغاثة وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة في حالات الطوارئ والكوارث والأزمات الإنسانية والنزاعات والحروب وفقا لقرار مجلس الجامعة علي مستوي القمة رقم319 بتاريخ23 مارس2005. ويتم تنفيذ كل الخطوات المؤدية لتطوير منظومة العمل العربي المشترك والتبعات المالية المترتبة علي ذلك وفق برنامج زمني, يقترب من خمس سنوات. لاحظ هنا أن كل هذه الأهداف طموحة للغاية بالنسبة لوتيرة العمل العربي المعروفة, وهي, ولا شك, يوجد فيها قدر كبير من المفارقة مع الواقع العربي الراهن سواء فيما يتعلق بالمفاهيم أو ما له علاقة بالسياسات العملية للدول العربية. وعلي أي الأحوال فإن هناك وجهتي نظر إزاء تطوير العمل العربي المشترك: الأولي تهدف إلي إحداث تعديل جذري وشامل بوتيرة سريعة لإقامة اتحاد عربي أو جامعة الوحدة العربية بدلا من جامعة الدول العربية, حيث ينص الإعلان الليبي علي أن يكون لجامعة الوحدة العربية الشخصية القانونية الدولية والأهلية الكاملة علي أساس التكافؤ والتكامل بين أعضائها والاتفاق علي ميثاق جديد تنفذ عناصره في إطار زمني محدد, وهو ما تتبناه دولة اليمن بخلاف ليبيا. أما وجهة النظر الثانية فهي تتبني رؤية تدريجية للإصلاح والإبقاء علي مسمي جامعة الدول العربية في المرحلة الراهنة وإرجاء بحث إقامة الاتحاد في أعقاب تنفيذ خطوات التطوير وتقييمها, وهو ما أيدته مصر باعتبار أن الجامعة هي قاطرة العمل العربي المشترك, ودعا الرئيس مبارك في القمة الخماسية الماضية إلي الاحتفاظ باسم الجامعة العربية مع إضافة كلمة( اتحاد) ليكون الاسم الجديد المطروح اتحاد الجامعة العربية. وفي الحقيقة فإن التيار الواقعي في الكتابات العربية يري أن هناك صعوبة في الارتقاء بالجامعة إلي الاتحاد العربي حيث إن ثقافة الاستقلال والسيادة أضعفت ثقافة الاتحاد والوحدة, وتعلو السيادة الوطنية فوق المصالح القومية. ولم تكن الأفكار الحالية الداعية لإصلاح النظام الإقليمي العربي هي الأولي من نوعها, بل طرحت في فترات سابقة. فقد تلقت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية سبعة مشروعات من مصر والسعودية واليمن والأردن وقطر والسودان وليبيا لتطوير الجامعة العربية والأجهزة الملحقة بها, وذلك خلال العام2003, وتم تشكيل مجموعة عمل خاصة, برئاسة نائب الأمين العام للجامعة العربية, لدراسة هذه المبادرات والمشروعات, وتم إعداد بنك معلومات يضم كل ما طرح من وثائق ومقترحات لتطوير الجامعة منذ ميلادها. وركزت معظم المشروعات المقدمة علي تغيير الميثاق أو إضافة ملاحق جديدة له, بينما ركز المقترحان الليبي واليمني علي منظومة عمل جديدة للعمل العربي المشترك, بما في ذلك تغيير اسم الجامعة, ولم يسفر عن تلك المحاولات تحول ملموس أو تغير بارز في مسار العمل العربي المشترك. كما أن العبرة ليست بالمسميات سواء اتحاد أو جامعة, وإنما بشركاء الاتحاد ومدي توافر إرادة الدول الأعضاء في الجامعة العربية للتطوير وتغيير ما جرت عليه السياسة العربية علي مدي عقود طويلة. أما اقتراح إنشاء رابطة جامعة لدول الجوار الجغرافي العربي الذي طرحه السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية فإنه يبدو من الناحية السياسية مستلهما من تجربة سياسة الجوار التي يتبناها الاتحاد الأوروبي وتدخل فيها الدول العربية الواقعة علي البحر الأبيض المتوسط, كما أن ضروراتها الاستراتيجية تخلق عناصر لتوازن القوي في منطقة الشرق الأوسط خاصة مع النشاط السياسي والاستراتيجي المتزايد لكل من إيران وتركيا. والمعضلة هنا أن سياسة الجوار مهما كانت مبرراتها تأتي بينما العلاقات البينية بين الدول العربية ليست في أفضل حالاتها, كما أن دولة مثل إيران ربما سوف تحمل النظام العربي كله بما لا طاقة له به وبدلا من مشاركته في تصحيح التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل, فإنها بما تفعل يؤدي إلي مزيد من الخلل معها. ومثل هذه الخطوة في كل الأحوال لا ينبغي لها أن تسبق, بل تلحق تطوير الأوضاع العربية, لأن أزمة العمل العربي المشترك ليست في غياب النصوص أو غياب المشروعات العربية, وإنما تكمن في التنصل من التنفيذ حتي في القرارات التي تم الاتفاق عليها بالفعل بل تلك التي حظيت بإجماع عربي. كما أن هذا الاقتراح الخاص بدول الجوار يمكن تحقيقه علي أرض الواقع من خلال تطوير علاقات الصداقة والتعاون وفق الأطر الإقليمية والدولية مثل منظمة المؤتمر الإسلامي وكتلة عدم الانحياز. ولكن هناك اتجاها آخر يري أن فكرة رابطة الجوار لا يمكن النظر إليها من منظور صراع أو حتي تنافس الأدوار في الإقليم, وإنما الهدف من إنشاء الروابط هو خلق تعاون أوثق بين الدول العربية ودول الجوار, بما يخدم المصالح العربية ومصالح تلك الدول. وبالتالي, فإن ثمة ضرورة لخروج التفكير العربي عن نمطه التقليدي في التعامل مع هذه النوعية من الأطروحات, والذي يمكن أن يجني نجاحات في المستقبل, ويسلط الضوء علي ما يسمي ب الإقليميةالجديدة, مع الإشارة إلي بعض النماذج الناجحة مثل الآسيان في آسيا وميركوسور في أمريكا اللاتينية. وقد عبر عن ذلك التوجه الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسي حينما قال إن اتفاقيات التعاون هي محاولة لإعادة إحياء التفاهمات بين الجامعة وعواصم صناعة القرار في العالم.. كما تشكل إضافة للتعاون بين الجامعة العربية والمنظمات الإقليمية عبر القارات. ويستند هذا الاتجاه إلي بعض الحالات التي نجحت فيها الجامعة العربية كتجمع إقليمي مع أطراف أخري. فقد نجح منتدي التعاون العربي الهندي في الارتقاء بحجم التعاون التجاري بين الدول العربية والهند إلي110 مليارات دولار عام2009, بعد أن كان40 مليارا عام2004. وفي إطار منتدي التعاون العربي الصيني, فإن التجارة البينية بين الصين والدول العربية بلغت107.4 مليار دولار في العام2009 مقارنة مع36.4 مليار دولار في عام2004. وقد استضافت طوكيو في6 ديسمبر2009 منتدي اقتصاديا عربيا يابانيا, تحت شعار فصل جديد للازدهار المشترك, وهو الأول من نوعه حيث وقع عليه الأمين العام للجامعة مع وزير الخارجية الياباني كاتسويا أوكادا ووزير الاقتصاد والتجارة والصناعة ماسويكي ناوشيما ويهدف إلي تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية وتطويرها. فضلا عن ذلك, يحقق منتدي التعاون العربي التركي قفزات للأمام, لدرجة أن وزير المالية التركي محمد شيمشك أشار إلي أن عقد بلاده اتفاقيات تجارة حرة مع الدول العربية أدي إلي ازدياد الحجم التجاري خمس مرات في العام2009 مقارنة بما كان عليه الوضع في عام2002. كما أكد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في افتتاح أعمال المنتدي العربي التركي الخامس في منتصف يونيو الماضي عزم بلاده علي دعم التعاون الاقتصادي مع الدول العربية, وقال نريد أن تخرج العربة من تركيا لتصل إلي المغرب دون أن تقف عند أي بوابات حديدية. كما تم التوقيع علي المنتدي العربي الروسي في ديسمبر2009, لتفعيل الشراكة بين الجانبين. مثل هذه الحوارات العربية بين وجهات نظر مشروعة ولها ما يبررها في الواقع تفرض نفسها علي القمة العربية التي تجري اليوم; وعلي الأرجح إن هذا الفرض سوف يمتد عند انعقاد القمة العربية الإفريقية غدا باعتبارها واحدة من تطبيقات سياسة الجوار الجغرافي. وبقي أن ننظر في النتائج التي تفرزها هذه القمة وتلك حتي نري في أي اتجاه ذهب بندول السياسة العربية الذي سوف يحاول في ذهابه وإيابه البحث عن نقطة وسط بين توجهات عدة. [email protected]