للبنان كشعب وبلد مكانة خاصة في قلبي وعقلي, ودائما ما أقول ان هذه المساحة الجغرافية التي تسمي لبنان, ليست مجرد دولة في خريطة, بل هي رسالة ودور. ويبدو أن التدخلات والمؤامرات والاغتيالات والحروب. التي شنت علي لبنان وشعبه أو تم استخدام أرضه كمسرح لها, لم تكن تستهدف سوي القضاء علي هذه الرسالة والحد من هذا الدور, فقد كان ولا يزال النموذج اللبناني في عطائه الثقافي وتجربته في التعدد والتعايش المشترك والمناخ المنفتح والحريات, هو النفي الطبيعي لنماذج النظم الديكتاتورية الطائفية والعشائرية المنغلقة في المنطقة, لهذا استغل البعض من هذه النظم اختلال التوازن التاريخي بين مكونات هذا البلد, وأشعل بتدخله السياسي والمالي وبجيوشه المعادية والشقيقة, حروبا أهلية سياسية ودينية, أفقدت لبنان ملامحه وسيادته وقراره الوطني المستقل, وكاد يفقد رسالته, وما ان استعاد لبنان عافيته وحاول استعادة نموذجه الحضاري, حتي ظهر مرة أخري وكلاء الحرب والدمار, بتعبئة سياسية وحملات إعلامية وتحركات عسكرية ميليشياوية مع انتقالات مفاجئة في المواقف والمواقع للطبقة السياسية, تخللتها اشتباكات طائفية, أعادت الجميع إلي مرحلة ما قبل اندلاع الحرب الأهلية في بداية السبعينيات. وربما يعتبر البعض أن ما يحدث الآن في لبنان من تأزيم الأوضاع ودفعها نحو الانفجار هو حالة لبنانية أو مشهد عادي تعود عليه اللبنانيون, ولكن من المؤكد أن أوضاع ما قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم تتغير كثيرا, فالذين أدخلوا البلاد في نفق الحروب والصراعات والاغتيالات, لا يزالون يتحكمون في بعض مفاصل الوضع الأمني والحزبي في البلاد, ويلعبون كعادتهم علي أوتار الخلافات الداخلية, واستخدام القوي والحركات الموالية لهم, وتحريك آلة دعاياتهم السوداء, ومنذ أيام ليست بعيدة, تحركت هذه الدعاية السوداء في حملة منظمة بدأت من بيروت وعلي لسان شخصيات محسوبة علي سوريا وحزب الله الإيراني في لبنان وامتدت الحملة كفضائيات خليجية وأخري إيرانية فضلا عن صحف وأقلام تكتب وتنشر بالاصالة عن غيرها. وادعت الحملة, أن مصر تقف وراء التوتر الطائفي وأنها وراء الخلافات اللبنانية, وواصلت هذه الحملة أكاذيبها وطورت هجومها علي مصر وقيادتها ودبلوماسييها في بيروت, وقالت في ادعاءاتها, ان مصر تقوم بتدريب ميليشيات وعناصر موالية لها لصالح أحد الأحزاب, وانها وراء اندلاع الاشتباكات الطائفية في إحدي المناطق اللبنانية, وانتقدت الحملة استقبال مصر لعدد من القيادات اللبنانية, واعتبرت ذلك انتصارا لفريق علي فريق آخر. وقد تزامنت هذه الحملة مع الجدل اللبناني الدائر حول تحقيقات المحكمة الدولية الخاصة بمقتل الشهيد رفيق الحريري, ومع التباين اللبناني حول نزع سلاح الميليشيات, ويبدو أن هذه الحملة التي حاولت الزج باسم مصر في لعبة الخلافات اللبنانية الداخلية, والمرتبطة بشدة باللعبة الأكبر علي مسرح الصراع الإقليمي والدولي الذي استخدم الساحة اللبنانية وإعلامها في هذا الصراع, استهدفت إلي جانب الاساءة لمواقف مصر, تهيئة الأرض اللبنانية لحروب جديدة تمنع توجيه أي اتهام إلي قتلة الحريري, وتمنع أيضا سعي الدولة اللبنانية لتأكيد سيادتها وتفعيل دور الجيش اللبناني في الدفاع عن البلاد, وتقليص دور سلاح الأحزاب, كل هذا إلي جانب محاولة استرداد النفوذ المتراجع لبعض الاشقاء الذين لم ينسوا مشهد خروج قواتهم من الأراضي اللبنانية. ومن الواضح أن الأمور صدرت لوكلاء الدعاية السوداء بالزج باسم مصر وشن هذه الحملة عليها لإخفاء هذه الأهداف, ومحاولة تحميل بلد مثل مصر ومعها الأردن, مسئولية ما يجري في لبنان, وهو ادعاء يعرف أبعاده وأهدافه كل اللبنانيين, ويعرفون أكثر من وراء تجهيز المسرح اللبناني لدورة عنف جديدة يحقق بها هؤلاء أهدافهم, حتي لا ينعم لبنان بالاستقرار ولا يعود لأداء رسالته التي تؤرقهم, ومن الواضح أيضا أن الشعب اللبناني يدرك هذه الحقيقة, ويدرك أيضا أن مصر طوال تاريخها ظلت بجوار الشعب اللبناني وترفض التدخل في شئون لبنان, وكانت سندا له منذ الاستقلال ووقفت ضد التدخل الأمريكي أيام الرئيس جمال عبدالناصر, ودعت إلي رفع الأيادي عنه أيام الرئيس السادات, وفي عهد الرئيس مبارك وقفت مصر بوضوح مع سيادة لبنان وقراره المستقل وساندت حكوماته الشرعية المنتخبة, واستقبلت كل زعماء الأحزاب والطوائف اللبنانية, وكان أول رئيس مصري يزور لبنان هو الرئيس حسني مبارك وذلك في فبراير عام2000, حيث التقي بالرئيس إميل لحود, ووقفت مصر بشدة ضد العدوان الإسرائيلي علي لبنان, واستقبل الرئيس مبارك الرئيس ميشال سليمان في نوفمبر2008 في مصر, وقدمت مصر كل الدعم السياسي والدبلوماسي إلي جانب الدعم الاقتصادي والطبي, لقد انطلقت مصر من موقفها هذا طوال علاقاتها مع لبنان من احترام المؤسسات الشرعية اللبنانية, وحق لبنان في استكمال مؤسساته الدستورية دون تدخل, ويعرف اللبنانيون أن ليس لمصر أجندة سياسية أو طائفية في بلادهم, فهي التي دعمت الحوار الوطني بين كل اللبنانيين وهي التي سعت لعدم تكرار مآسي الحرب الأهلية في البلاد, وهي منفتحة علي كل القوي والأحزاب والطوائف اللبنانية وتقف علي مسافة متساوية بين الجميع. وأعتقد أن اللبنانيين يدركون حقيقة وأهداف تحريك آلة الدعاية السوداء ضد مصر ومواقفها وبخبرتهم يعرفون أن ما يحاول البعض منهم, له أبعاده الاقليمية والدولية المرتبطة بمصالح خارجية, لا تخدم مصالح الشعب اللبناني. لهذا يمكن تأكيد أن ما بين مصر ولبنان, لن يستطيع إفساده وكلاء الحروب والدعاية السوداء, الذين يحاولون إخفاء أدوارهم بالادعاء علي مصر والزج باسمها لصرف النظر عن دور آخرين, وأعتقد أن لبنان هذا البلد الجميل بشعبه المحب للحقيقة والحياة وبكل طوائفه, يعرف جيدا من يحاول إنهاء دور بلاده, ويحاول سرقة رسالة لبنان الحضارية خوفا منها أو طمعا فيها, ولهذا فهو لن ينساق وراء هذه الحملة ولن يسمح بتكرار تجارب الماضي الأليمة. وفي النهاية, ينبغي أن يظل هدف الحفاظ علي لبنان كوطن ودولة هو هدفنا الأول لأننا بذلك نحافظ علي النموذج والرسالة الحضارية لشعب لن يستطيع أحد سرقة فرحته ورسالته. المزيد من مقالات مجدي الدقاق