يكتسب الحوار الذي دار أمس الأول بين الرئيس مبارك وعدد من المثقفين المصريين أهميته من أنه الأول بعد انقطاع خمس سنوات, توقفت خلالها اللقاءات الدورية. التي كان الرئيس يعقدها مع المثقفين ضمن فعاليات افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب. وهي لقاءات بدأت في منتصف الثمانينيات بلقاء بين الرئيس وعدد محدود من المثقفين, في حدود عشرة أو خمسة عشر, يمثلون مختلف التيارات والاتجاهات والأجيال, مما كان يتيح الفرصة لمناقشات في العمق, تليق بما وصفته آنذاك بأنه الحوار بين رأس الدولة وعقل الأمة. ولكن العدد أخذ يتزايد تدريجيا, حتي وصل إلي ما يقرب من800, وهو ما جعل الطابع الاحتفالي يغلب علي هذا اللقاء, وأفقده طابعه المميز, إلي أن عاد خلال السنوات الثلاث الأخيرة التي سبقت توقفه, إلي طابع قريب لما بدأ به, فأصبح يقتصر علي70 أو80 من المثقفين, يمثلون اتجاهات وتيارات فكرية وسياسية مختلفة.. وأشهد أن هذه اللقاءات الأخيرة, التي شاركت فيها خلال تلك السنوات كانت تتسم بقدر كبير من الحيوية الفكرية والسياسية, وأن كل الذين شاركوا فيها قد عبروا عن آرائهم أمام الرئيس بصراحة ووضوح وبإحساس عال بالمسئولية الوطنية ورغبة مخلصة في الدفاع عن المصالح العامة, وكانت في معظمها آراء تختلف مع السياسة العامة للدولة, ومع آراء الرئيس المعلنة, وأن المعترضين والمختلفين والمتحفظين علي هذه السياسة كانوا الأكثر حظوة بفرصة الكلام.. وأن الرئيس كان يستمع باهتمام, ولم يضق بأي رأي, أو يصادر حق صاحبه في مواصلة الكلام, واحتفظ بحقه في أن يختلف مع صاحبه, مشيرا إلي مبرراته في الاختلاف, إذا لم تكن من الأمور التي تتعلق بمصالح الدولة العليا. وأتذكر في أحد هذه اللقاءات, ان فريقا من المشاركين فيها, اثاروا قضية تعديل دستور1971, وجرت مناقشة موسعة حول الموضوع قبل الانتقال إلي غيره, عقب اللقاء سحبني المفكر الراحل الصديق د. محمد السيد سعيد من يدي وكنا من بين الذين اثاروا الموضوع, واقتحمنا دائرة من الزملاء كانوا يحيطون بالرئيس ويستكملون الحوار معه, لنعيد طرح الموضوع عليه, وانتحي بنا الرئيس ركنا من القاعة, واضفنا مبررات أخري لما سبق أن قلناه, وكان لدي الرئيس أسبابه آنذاك في أن الخطوة سابقة لأوانها, وكان رأينا أن وقت تنفيذها قد حان بل تأخر.. وقال الرئيس وهو يصافحنا: نفكر! وفي لقاء العام التالي يناير2005 جرت مناقشة أخري في الموضوع نفسه, تمنيت خلالها علي الرئيس أن يركز الخطاب السياسي الذي يواكب الاستفتاء علي رئاسته الخامسة, علي ما يتعهد بتنفيذه خلال السنوات الخمس المقبلة, وليس علي ما انجزه خلال الدورات السابقة, وتمنيت لو أن هذه الحملة تضمنت تعهده بإدخال اصلاحات دستورية, فضلا عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تشغل الناس آنذاك.. وقال لي الرئيس: تقصد أن اطرح برنامجا يجري علي أساسه الاستفتاء؟ فلما أجبت بالايجاب قال: فكرة تستحق البحث.. وهو تعليق فهمه كثيرون ممن حضروا الحوار, بأنه اشارة إلي أن هناك شيئا ما في الأفق تجري دراسته في الكواليس.. ما لبث أن اتضح حين فاجأ الرئيس الجميع, بعد اسابيع بطلب تعديل المادة76 من الدستور. تلك نماذج من بعض ما اتذكره عن بعض هذه اللقاءات, لا تختلف كثيرا عما جري في اللقاء الذي ضم الرئيس مبارك وعددا من المثقفين أمس الأول, الذي شمل حوارا صريحا وحرا حول طائفة من العلوم العامة, كانت مع ما سبقها مما دفعني أن اتمني علي الرئيس مبارك أن يوسع من لقاءاته بمجموعات أخري محدودة العدد كذلك من المثقفين, ومن النخب السياسية والاجتماعية, بمن في ذلك رؤساء وقادة الأحزاب السياسية, ليستمع منهم, ويستمعوا اليه ويتعرف كل منهم علي الآخر, بشكل يختلف عن الصور النمطية التي يعكسها الإعلام أو تعكسها التقارير, فتكون تلك اشارة إلي فتح قنوات الحوار بين الجميع, علي قاعدة اعتراف الجميع بالجميع, واقرار كل منهم بحق الآخر في أن يختلف عنه, وأن يجتهد في الشئون العامة, بما يراه, طالما يدور هذا الاختلاف في إطار الدفاع عن المصالح الوطنية, وتسليم كل منهم بأنه لا يملك الحقيقة المطلقة, وبأنه ليس الممثل الشرعي أو الوحيد للوطن أو للدين, فالوطن ملك لنا جميعا.