لم تكن مجرد مغامرة صحفية صاحبتها بعض العقبات والمخاطر بل كانت رحلة إنتحارية إلي أرض الموت. رحلة إلي حيث دولة انهارت منذ20 عاما فصارت مرتعا للميلشيات والمرتزقة والعصابات والقراصنة وحكم القبائل والتنظيمات الغامضة.. وكل من هب ودب من القوي الاقليمية وأجهزة المخابرات في العالم. ... فعبأت روحي بسحر المغامرة وخاطرت وبتشجيع رئيس التحرير بدعم هذه المخاطرة الكبيرة ليس فقط لكتابة قصة صحفية مثيرة تنقل أسرار عالم القراصنة وتشرح الخلفيات السياسية والاقتصادية الاجتماعية لما يحدث هناك.. علي خطي الملكة الفرعونية حتشبسوت التي تسلحت بالوعي الاستراتيجي الكافي منذ آلاف السنين وأقامت علاقات إقتصادية وسياسية مع القرن الافريقي والخديوي اسماعيل الذي مد حدود مصر إلي هرر وبربرة وأوبوك, أمسكت طرف الخيط من ميناء المكلا اليمني تسلحت بروح المغامرة الصحفية وتشجيع رئيس التحرير ونجحت في الركوب علي ظهر سفينة مواشي من الميناء الواقع علي المحيط الهندي.. لتبحر السفينة لمدة24 ساعة, وقبل الوصول إلي بوصاصو بعشرة أميال فاجأني صياح النساء وهلع الرجال بو رعد باديد وهي الكلمة التي سمعتها في المكلا وتعني قراصنة البحر, دار القراصنة حول سفينتنا بزورق مسلح يسمونه ليلي علوي وتأكدت فيما بعد أنه تيمنا باسم ممثلتنا البارعة. .. ظهور القراصنة.. كان دليلا علي أن إختيار ميناء المكلا كبداية للرحلة كان اختيارا موفقا لأنه الميناء الأكثر حياة وتفاعلا واتصالا بباقي الأرض اليمنية ومن ثم باقي دول الجزيرة العربية وهو ما ساعدني فيه وأرشدني اليه عبدالمجيد مطر صاحب سفينة المنصورة التي اختطفها القراصنة قبل عامين ولأن الجالية الصومالية بها تكاد تصل أعدادها الي30% من سكان المدينة الميناء, فساعدني صالح الرمادي الوكيل البحري في انطلاقي علي سفينة المواشي بعد أن وافق سفير مصر في صنعاء محمد مرسي عوض علي سفري في تعاون رائع نفتقده في عدد من سفرائنا بالخارج ورعاية لجميع المصريين في اليمن كما أخبرني البحارة وتجار الاسماك المصريون في المكلا. وابلاغ العميد عبدالمجيد جريزع مدير الأمن السياسي في حضرموت بعدم ممانعته في سفري, كان تواجدي في المكلا لعدة أيام بعد انزالي أول مرة من علي سطح السنبوك قبل ابحاره بنصف ساعة وتوفيقي فبدأت عن معلومة الجميع بلا استثناء من صوماليين ويمنيين حاولوا إثنائي عن الرحلة ودفعي للعودة خوفا علي حياتي. وهكذا انتشر الخبر في المدينة كلها بوجود صحفي مصري يبحث عن معلومة وعن السفر الي بوصاصو ولذا لم تفاجئني أولي محاولات التحرشات بي علي السفينة ومحاولة خطف الكاميرا أو القائي بها في مياه المحيط لولا عناية الله, وإصرار نجيب عمر الشاب الصومالي من بوصاصو وحسن وفهيمة من مقديشيو علي حمايتي. بوصاصو هي المدينة الأشهر في بونت لاند والميناء الأكثر أهمية للقرن الأفريقي, وصارت قبلة للتجار والباحثين عن العمل والمتسولين واللصوص وقراصنة البحر ومخابرات الدول والعاهرات ومركزا لميليشا كونتها أمريكا من الشباب الصوماليين وبها السجن المركزي الكبير ليونتلاند. أدركت منذ يومي الأول فيها أنني مراقب وأن غرفتي بفندق جوبا مخترقة وأوراقي مطلع عليها. كانت كل هذه الأفعال الرديئة تتم بصورة بدائية لا تكتشفه بالحدس أو الحس الصحفي فقط ولكن برؤية العين. لذلك لم يكن صعبا علي التقاط الجواسيس ومصافحة أحدهم ودعوته للعشاء معي مما أثار دهشته وعجب الزميل الصومالي عبدالفتاح أشكر ودعا خليفة بري تهدئتي تحذيري حتي أحد من حركتي عبر نصائح أبوية. لاتذهب إلي.. وهكذا.. حتي فاض به الكيل وصرخ في وجهي غاضبا بعد القبض علي مذكرا تحذيراته وقال لي عند وداعي, منذ أكثر من20 سنة لم يطأ هذه الأرض صحفي مصري أو عربي. أنت جريء جدا. تستحق ميدالية ذهبية. وكانت ميداليتي الذهبية التي حصلت عليها هي معرفة المكان واختراق حصون المؤسسة والتقاء القراصنة في ايل وجلكعيو وجروي, صحيح أن اللقاء معهم كان من خلال بعض صديقات القراصنة ولكنها كانت علاقات مهنية شريفة. وحين حاولت التقاط صورة لزعيم القراصنة بوياح لم ينته الأمر إلا بمحاولة قتلي والاعتداء علي وهو ما حدث ايضا مع القرصانين حسن فارح وصالح جري عندما التقطت من بينهم عبد الله سالم أصغر قرصان(13 عاما) مع مترجمي واستدرجته في الحديث عنهم وعن أعمالهم وهو ما دفعهم لاحتجازي. مصر أضاعت الصومال عندما تركتها تعوم في بحار من الدم والفوضي. هكذا قال لي أحد المخلصين وأضاف عندما تعطشون ستركضون الي هنا. ولكن هل ستكون لكم فرصة أو موطيء لقدم؟! ومتصل هذا المعني سمعته بعد الاعتقال. فما حدث كان بترتيب ورعاية المخابرات الاثيوبية وبمعرفة ضابطها الاوجاويني للاسف آدم. وقد تبنت خلال التحقيقات معي ومن خلال المحاورات التي دارت أمامي باللغة الصومالية من بعض المفردات وتعبيرات الوجه التي أكدت أن الافراج هو حلقة من صراع بين جناحين. الأول هو اثيوبيا وعملاؤها والثاني هو الجناح العربي القومي وهذا الصراع موجود في البرلمان ومجلس الوزراء ودوائر الحكم والامن في بونتلاند ونحن في مصر للاسف أضعفنا الجناح العربي,. في جروي( العاصمة) بعد عودتي من ايل وجلكعيو التقيت بوزير الأمن يوسف أحمد ووزير التخطيط داود بسم الله ونائب وزير الاعلام عبد الغني صلاد قاد وطالبا باعتقال التحقيقات معي. وعودتي الي الفندق جاءتني مهاتفة من رقم كنت لا أعرف صاحبه إلا قبل السفر وهو أحد من التقيتهم في بداية الرحلة يحذرني من البقاء في جروي ويحثني علي الهرب منها بسرعة الي قرطو مدينة الازهر والبعثة الازهرية حيث يتوافر الأمان. بعد دقائق كان وجه مرافقي المخلص مكفهرا يدعوني ايضا للخروج من المدينة لمعلومات وصلته من أقارب وزملاء بأن حياتنا في خطر فطلبت منه استئجار سيارة لننطلق بعد دقائق مع انطلاق آذان المغرب. في الطريق احتد السائق عليه وعلا صوتاهما فسألته فأخبرني ان السائق يلعن الساعة الذي اتصل فيها به لأنه سيقتل معنا حيث ان السيارة المندفعة وراءنا تتعقبنا من أمام الفندق طلبت منه ان يحث السائق علي الاسراع بأقصي سرعة لنختفي ولو لدقائق وعندما تأكدت من الابتعاد طلبت منه التوقف ليؤديا صلاتي المغرب والعشاء قصرا علي جانب الطريق مما سيمنحني فرصة للاختباء.. في عشب الطريق وبين شجر كثيف وهو ما حدث نزلت مسرعا متراجعا لمسافة مائة متر وأدي مرافقي والسائق الصلاة. قبل ان يختماها كانت السيارة الاخري قد توقفت وأضاء من نزلوا منها بطاريات الضوء للبحث عني في السيارة وفي وجوه المصلين. لم يتركوهم إلا بعد انتهاء الصلاة وسؤالهم عمن كان معهم ولهذا فضلت أن أظل مختبئا حتي يستطيع مرافقي تدبير سيارة أخري بسائق مأمون من جروي علي أن ينطلق هو الي بوصاصو بالسيارة حتي ينجوا وأنجو بعد اختبائي بين الشعب وشجر الشوك لساعتين إذا تم تعقبها مرة أخري وهو ماحدث. إن اختلال معادلة النفوذ في الصومال ينبيء بضياع حقوق العرب ومصر فيها سياسيا وثقافيا وأمنيا ويمثل خطورة كبيرة علي الوجود العربي فيها وهو ما لاحظته في كل تحركاتي حتي عندما دخلت الي مكتب الطيران لحجز تذكرة السفر بعد أن هاتفني الاستاذ اسامة سرايا رئيس التحرير طالبا مني الاكتفاء بما كتبت والعودة بعد أن اطمأن علي الافراج عني نتيجة اتصالاته واتصالات مدير التحرير الاستاذ عبد المحسن سلامة وزميلنا محمود النوبي بوزير الخارجية وسفارتنا في نيروبي لتدخلهم, عندما تناول موظف الحجز جواز السفر فقال: أنت الجاسوس المصري ؟! فاندهشت فقال كل بونت لاند تعرف الآن انه تم القبض علي جاسوس مصري اسمه ايمن السيسي ولم تزعجني دلالة هذا الأمر ولا إصرار وزير الموانيء ومحافظ الشرق علي مصاحبتي في الخامسة فجرا الي المطار بطقم حراسة مسلح للاطمئنان علي ركوبي الطائرة والإفلات من احتمالات القتل أو الاختطاف وما قيل لي من أحد المسئولين قبل اقلاع الطائرة أن المخطط لي كان قتلي بالرصاص من خلال شخص ملثم واصدار بيان بعد ذلك أن تنظيم القاعدة أو شباب المجاهدين قتل جاسوس مصري. ماذا حدث في بوصاصو؟ وقبل أن نغوص في أدغال دولة لقراصنة سنحاول أن نعطي قارئ الأهرام فكرة سريعة عن الأحوال في بونتلاند عامة ومدينة بوصاصو عاصمة القراصنة خاصة من خلال لقاء بين الأول مع الصحفي الصومالي الكبير خليفة بري الذي تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة منذ5 عقود أما اللقاء الثاني فمع سعيد محمد راجي وزير المواني والنقل البحري في حكومة بونتلاند, في البداية رحب بي الصحفي خليفة بري ترحيب المتلهف علي تنشيط مشاهد ذكرياته القديمة في القاهرة وقال في أول حديثه: لماذا يتمسك المصريون بفكرة أن العاصمة هي مقديشيو في حين أن الحقيقة والواقع أن بوصاصو العاصمة التجارية والميناء الأهم لبونتلاند هي الأكثر تأثيرا سواء في المجال التجاري أو السياسي أو الاستراتيجي والدليل هو انتقال اكثر من نصف مليون مواطن من مقديشيو والجنوب اليها خصوصا كبار التجار والأعيان والصحفيين والمثقفين. وانشأت فيها جامعة شرق أفريقيا. فتوسعت بوصاصو في المساحة لأكثر من تسعة أضعاف ما كانت عليه قبل خمسة عشر عاما وزادت أعداد سكانها من15 ألف نسمة إلي ما يقرب من المليون نسمة. وبنبرة أسي واضحة أضاف الصحفي الكبيرخليفة بري: لماذا لايقوم المصريون بفتح مكتب تجاري لهم في بونتلاند. فهي الأهم في كل مناطق الصومال وباتت هي مركز الثقل الحقيقي استراتيجيا وثقافيا وتنمويا. وفيها فرص هائلة للتجارة والتبادل التجاري وأضاف الفراعنة نزحوا من هنا كما يقول بعض علماء الأجناس والتاريخ. وأصبحت بوصاصو هي أهم موانئ شرق أفريقيا لإشرافها علي البحر الأحمر والمحيط الهندي وبونتلاند هي منطقة الاحتياطي النفطي واليورانيوم وللأمريكان إهتمام كبير ذلك ولديهم رخص استخراج نفط منذ حكومة سياد بري وماقبله. ولماذا لاتجئ الشركات المصرية قبل أن تضيع كل ثروات بونتلاند ويستولي عليها الغربيون وكل من يشغل منصب الرئيس يمنح لشركات البلد التي يحمل جنسيتها تراخيص بحث واستخراج فمثلا الرئيس السابق محمود موسي حرسي يحمل جنسية كندية أعطي تراخيص لشركات من كندا وإن كان الأمريكان يحاولون عرقلة ذلك!! * وماذا تطلب من مصر ؟ أن تتواجد فهل يعقل أن يكون عدد المدرسين المصريين450 مدرسا في السبعينات والآن لايزيد العدد عن27 مدرسا. والمفروض أن يتضاعف الرقم مائة مرة وهل معقول أن يكون لدول أخري مكاتب رعاية مصالح وتجارة ولايوجد لمصر. لا تضيعونا وتضيعوا أنفسكم. اللقاء الثاني كان مع وزيرا للمواني والنقل البحري في الحكومة الحالية ويمثل مع مجموعة من الوزراء والمسئولين الوجه العربي للحكومة البونتلاندية ويشرف علي خمسة مواني في بونتلاند منها ايل وأس حافون ولاس قوري وجرعد التي تعتبر مواني صيد صغيرة ولكن الميناء الأهم في هذا الاقليم الدولي هو ميناء بوصاصو وعنه يقول سعيد محمد راجي وزير المواني والنقل البحري: بوصاصو تعتبر أكبر موانئ القرن الإفريقي وشرق إفريقيا وأهمها حيث يتم من خلالها مرور التجارة الواردة أو الصادرة من الصومال وجيوبتي وكينيا. هذا كله علي مستوي التبادل التجاري, علي هذه الدول وعلي رأسها مصر أن يقوموا بمساعدتنا وتقديم المنح والخدمات لنا ولكن يبدو أن الشئ الوحيد الذي اتفق فيه العرب هو تعذيب وتجويع الشعب الصومالي. وأسأله * هل تمتلك وزارة النقل البحري سفنا أو قوات بحرية؟ لدينا ولكنها قليلة فهناك5 سفن وقوتها الاجمالية500 جندي. وهي سفن قديمة. ونحتاج الي سفن حديثة للحركة واسلحة وأجهزة اتصالات وملاحة حديثة, مما يمكن أن يساعدنا علي ضبط الأمن في جزء كبير من الساحل وحصار القراصنة ومنع أعمالهم.