بعدد محدود من الروايات المكثفة, والعوالم الواقعية التي تفوق غرائب الخيال, يدخل عز الدين شكري بكفاءة عالية تاريخ الرواية العربية المعاصرة, باعتباره أهم من قدم فيها تمثيلا جماليا ناضجا لكبري المشكلات السياسية الراهنة وهي تحول الطاقة الدينية الجبارة, المنيرة لدروب الحياة, علي يد قلة جاهلة, إلي تفجير نووي مدمر لعلاقات الأفراد ومصائر الأمم, اسمه الإرهاب, ليكون أحد الأسباب الحاسمة في حرمان الدول الإسلامية من ثمار التطور الديمقراطي والنضج الحضاري الوئيد, حيث وضعها في مواجهة خاسرة مع تاريخها النبيل. يتوغل الكاتب الدبلوماسي وأستاذ السياسة الدولية في صميم تكوين الخلايا والجينات الخبيثة لهذه الجماعات, في مصر والسودان وأفغانستان ليقدم ما يكاد يبلغ درجة التوثيق المشهود علي طرائق العمل. ودقائق المشاعر, في ملحمة مثيرة في جوانبها الإنسانية والتنظيمية والتقنية. فيبدو كأنه قد عمل من قبل في صفوف هذه التنظيمات, أو في الأجهزة المقاومة لها, حيث يمسك بشبكة الوقائع ونسيج التخطيط والإنجاز بصرامة واتقان, كاشفا عن أسرار علاقات الحب المحبط والطموح الموؤود. وأخطبوط المال والفساد, مع أوهام البطولة الزائفة, حيث تعتلج القلوب, وتتوهج الغرائز في شبكة مجتمعية محمومة. المسافة من الواقع يذيل الكاتب روايته بتنويه تقليدي, ينص علي أنها قائمة علي الخيال المحض, وأنه استعان في صياغتها بعدد من الكتابات التي تناولت حياة تنظيمات عربية قاتلة, وبعض اعترافات أدلي بها مشاركون في هذه الأنشطة, إلي جانب دراسات ولقاءات جمعته بعناصر منها, مما جعلها تقترب من وقائع حقيقية, وان ظلت بعيدة عنها من حيث التسلسل والسياق. والواقع أن هذه المشكلة مازالت ملتبسة في حياتنا الثقافية, حيث لا يقوي القارئ ولا المشاهد علي التمييز بين التاريخ والفن, ولا يستطيع أن يدرك بفطنته وحدها أنه إزاء بناء تخييلي شامخ, يرفع الكاتب قبته, ويضع تحتها مئات التفاصيل النفسية والنماذج البشرية والمواقف المحتدمة والمحاكية للواقع, لكنها مغايرة له, ومختلفة جذريا عن نسيجه. ففي رواية أبو عمر المصري نري كيف تحول الإنسان السوي البسيط إلي مخلوق مدمر, فخر الدين محام شاب نجا من محاولة اغتيال دبرها له جهاز أمني يعمل خارج القانون في مصر لسعيه للتغيير السلمي فيفر بجلده إلي باريس لدراسة القانون, وهناك يلتقي بمن أحبها وحالت ظروفه الطبقية من الاقتراب بها, وقد أصبحت زوجة شقية بترفها وحرمانها من الحب, يستأنف معها علاقة متوترة تقطع حبل زواجها الواهي دون أن يمنحها الزوج نعمة الحرية, يغوص معها فخر الدين في علاقة آثمة تثمر لهما ابن خطيئة هو عمر الذي تفقد حياتها عند ولادته, ويتسمي فخر الدين بأبوته, بموتها يحل الصقيع علي روحه, كأن الضوء قد ذهب من حياته فجأة, كأن الألوان قد اختفت من حوله مثلما كانت شرين تقول له: أصبحت الدنيا أبيض وأسود, بل رمادي وأسود. أصبح كالحاضر الغائب. ضاعت ملامح الأشياء وخلقت أشكالا هائمة تعترض طريقه حين يسير, صارت الأشياء في عينيه ومضات مغلفة بطنين وصمت محبط, لكن الغريب أنه لم يتوقف لحظة ليدرك جذر مأساته في هذا الحب المحب المختنق. فقد شهيته للحياة وترك دراسته, والتحق بشركة استثمارية خليجية كبري تعمل في السودان, وسرعان ما اكتشف أنها غطاء لمنظمة خطيرة تقوم بتدريب المقاتلين لتبعث بهم إلي أفغانستان. اشتد عوده وزادت صلابته بدنيا وروحيا, جعلته الأسفار الكثيرة في الصحراء والأحراش يكتفي بالأشياء الأولية.. كشفت له مزرعة شمال الخرطوم التدريبات التي يقومون بها في استخدام الصواريخ المحمولة علي الكتف وتصنيع بعضها, وعندما التحم بالتشكيلات المقاتلة وسافر إلي أفغانستان مر بفترات أشد صعوبة في التدريب والتنظيم, وتجسدت مهمته في القنص حتي أصبح نسر الجماعة, والتحق بحماية الشيخ, وصار من كبار القادة المجاهدين. تقنيات السرد لا يحكي عز الدين شكري ملحمة فخر الدين الذي أصبح يسمي أبو عمر المصري بنسقها الزمني طبعا, بل يستهل الرواية بمشهدين من صلبهما, أحدهما يتضمن شريط رحلته الثانية إلي السودان لإنقاذ ابنه المتهم بخيانة الجماعة من حكم الإعدام الصادر عليه, والثاني يصور لحظة اطلاقه الرصاص قبل ذلك علي رأس اللواء سمير الذي قاد عملية مطاردته واغتال بدلا منه رفيقه الذي التبس بشخصيته. ولأن الرواية مفعمة بالأحداث والوقائع والنماذج فإن متابعة نسيجها المتشابك في سياقنا هذا غير مجدية, بيد أن الانطباع الذي يخرج به المتلقي يتركز في نجاح التلاعب بتقنيات الزمن السردي من ناحية, والايهام بخلط الوقائع بالأحلام والأخيلة في وجدان الشخصية الأساسية من ناحية أخري في تخليق عالم نابض بالحياة وزاخر بالدلالات. فشخصية هند مثلا, الصحفية الفلسطينية التي تقابل أبو عمر في دروب أفغانستان حيث لا يتوقع وتعرف عنه أكثر مما يتصور, تنشق عنها الأرض أمام باب الدير الذي يلجأ إليه بعد عودته إلي مصر قبيل أحداث سبتمير2001 لتساعده في خطط انتقامه العبق والموجع من كل من أساءوا إليه لا تلبث أن تتحول إلي طيف مثل شيرين محبوبته, مما يضفي علي الأحداث الغليظة والشخصيات المادية الثقيلة لمسة وجدانية شفيفة, لا تلبث لغة كاتبنا أن تكمل وهجها الشعري في لحظاتها المحتدمة, بل نجده يطمح إلي خلق رموز كبري تضفي الجلال وتعدد المعني علي نماذجه الإنسانية, حيث يختم قصة تمرد ابنه عمر عليه ووشايته بالجماعة باعتباره نسرا هبط عليه من حيث لا يدري بعد أن ألقي به للوحوش وطار بعيدا عنه. وفي تقديري أن الثلاثية التي بدأها عز الدين شكري برواية مقتل فخر الدين ومضي في تتبع بعض خيوطها الدقيقة في غرفة العناية المركزة ثم أكمل حلقاتها في أبو عمر المصري سوف تظل احدي المنجزات البارزة في السرد العربي, حيث تتجاوز الإطار السياسي لتبلغ الذروة في تجسيدها لأشواق الإنسان للحرية والعدالة, وضلاله في استشراق آفاق المستقبل عبر العنف, بعيدا عن الحب والتسامح والسلام. المزيد من مقالات د. صلاح فضل