حين تحتشد الآراء في رأسي, تتوق للخروج للهواء الطلق, وحين أضمر في قلبي أفكارا تسكن فوق الشرايين, تحاول جاهدة أن تحمي نفسها من الجلطات, فأفصح عنها, ولولا إمكان التعبير فوق شاشة أو ورق.. لاختنقت حقا. واتعاطف بشدة مع بشر, يشعر الواحد منهم أنه مخنوق ويود الفضفضة! فمن ملاحظاتي ذات الدلالة اني عبر محادثاتي علي الموبايل ان الناس تتكلم بإفاضة شديدة كما لو كانوا صائمين عن الكلام لشهور, وحين أنزل الشارع بميكروفون وعدسة حديث المدينة فإن هناك عملية افتراس.. للميكروفون! هؤلاء البسطاء لايملكون فيس فوك وإلا كانوا أودعوا آراءهم علي صفحات النت, ولأن معظمهم مفروسين فإنهم يختفون خلف أسماء مستعارة خشية تعقبهم أمنيا, وبرغم أن الصحف خصصت مساحات للقراء ولكن ما يكتبه هؤلاء خاضع للفلترة والاختصار والحذف وربما جاء الرأي مبتورا, وفي زماني كانت جمعيات الخطابة والصحافة منبرا للآراء مهما ذهبت في الجنوح, كان هناك مرب يملك الصبر ليكون طرفا في نقاش أو حوار, الآن, لا أحد يسمع وإذا سمع اصابه الصمم وإذا افترضنا أنه أصغي فهو لا يهتم, لذلك أصبح اصطياد الشباب سهلا, فقط تعطيه أذنك وتهتم بما يقول, فيمشي وراءك حيثما ذهبت حتي ولو كان الطريق محظورا, ولما تقلص النشاط المدرسي في مدارس الدولة, أخذت الطاقة المختزنة صورا أخري لا تسر عدوا أو حبيبا, ولم تعد المدرسة تؤدي دورها التربوي وإن كانت تؤدي دورها التعليمي بدرجات تتأرجح بين الحشو والتسطيح, وحين أصبحت السياسة مادة مطاردة وممنوعة في الجامعات وانعدمت صحافة الحائط التي كانت في جيلي ملتقي الأفكار, انحرفت الآراء وربما تطرفت, دينيا أو اجتماعيا, فظهرت أفكار عبدة الشيطان أو الارتباط بالزواج العرفي بورقة يمزقها الشاب اذا شعر بالملل, وفي وقت قريب كانت هناك صالونات أدبية تتصارع فيها الآراء وتموج ولكن هذه الصالونات أغلقت وأسدلت ستائرها بعد رحيل أصحابها, كانت هذه الصالونات تمتص مساحة هائلة من ضجيج المجتمع وصخبه السياسي, وأتذكر أن صالون نجيب محفوظ كان يضم ناسا عاديين يدلون في بعض الأحيان بآرائهم, ومع اندثار الصالونات الأدبية ظهرت صحف الإنترنت, وظهرت الفضائيات التي قننت اذاعة الآراء الحقيقية واكتفت بالاتصال ببشر محدود عبر التليفون, فضاعت مصداقية الرأي الصادر من مهموم حقا ليحل محله صوت مفبرك! بعض الناس تشعرون بالخنقة لأنهم لايستطيعون التعبير عما يجيش في صدورهم وعندما تكثر هذه الحالة في الكتلة السكانية الأكبر, تهدد بانفجار أشعر أن مائة إنسان يودون لو نعطيهم نصف دقيقة ليقولوا ما يريدون, إن أقسي لحظة يعيشها بني آدم هي مصادرة رأيه أو قهره, بتجاهله أو تزويره إن الشعوب المتقدمة التي تعيش حياة سوية صحية هي التي تتيح للرأي أن يولد فوق الشفاة, وأتعس الشعوب هي التي تختنق فيها الآراء داخل القصبة الهوائية!, الناس كثيرا ما تتوقف عند عبارة( الرأي والرأي الآخر) لأنهم ببساطة يكتشفون أنه رأي واحد فقط أما الرأي الآخر فهو من باب الرفاهية الديمقراطية التي لازالت أملا, بعيد المنال! وقبل أن تختنق بعض آرائي داخل القصبة الهوائية, أبوح وأفرج عنها, ربما تلتقي مع آراء قراء يشعرون براحة نفسية لمجرد بثها فوق الورق. من رأيي مثلا أن زلزال مدينتي لا يهم سوي جزء علي عشرين من مجموع سكان مصر, أما البقية الهائلة فهي مهمومة بقضايا حياتية ملحة, فهم لا يعرفون معني( الجولف) وهل هو فاكهة أمريكاني وارد الخارج أم حبوب ضد الامساك؟ من رأيي مثلا أن كلام الأنبا عن أن( المسلمين ضيوف الأقباط في مصر) كلام مرسل يفتقد الحس السياسي ومنهجية المواطنة والسلام الاجتماعي. من رأيي مثلا أن اعتداء لاعب الفانلة الحمراء متعب علي المصور الصحفي يخالف الأعراف المرعية وفاول كبير وبطاقة صفراء وحمراء!.. من رأيي مثلا أن الوزير محمود محيي الدين الذي ترشح لمنصب دولي مرموق, نفد بجلده!.. من رأيي مثلا أن الوزير محمد إبراهيم سليمان لما وقع كترت سكاكينه بدليل كل شوية( رايح النيابة.. جاي من النيابة), وبالمناسبة في رأيي أن النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود يجب بعد الكثافة غير المسبوقة في البلاغات المقدمة إليه أن يعلن عن فترة مسائية وفترة تمتد الي منتصف الليل وفترة قرب الفجر! من رأيي مثلا أن مسلسل الجماعة الذي عرضه التليفزيون علي أبواب انتخابات مجلس الشعب مسلسل( سياسي) بوسيلة درامية محبوكة, من رأيي مثلا أن المؤسسات الدينية الواجبة الاحترام والتبجيل تواجه هزة شرسة تعصف بالقيم الوجدانية الثابتة. من رأيي مثلا أن الشعور بالظلم أقسي من الظلم. من رأيي مثلا أن من يمسك في يده قلما ولا يحصنه ضد الانزلاق لتشويه وجه البلد هو سارق مارق, من رأيي مثلا أن لدي الصحافة في هذا الزمان القدرة علي لوي الحقائق, لقد رأيت وسمعت الأستاذ هيكل يقول إن السادات أعد فنجان قهوة لعبدالناصر, ولم يقل إنه دس سما في الفنجان علي النحو الذي روجته بعض الصحف وتناولته الفضائيات, فهل وصلت بنا العقلية التآمرية الي هذا الحد؟ ألا يكفي عبدالناصر الصراع الدامي علي السلطة في أعقاب النكسة بينه وبين صديق عمره عبدالحكيم عامر؟! في ظني أن مصر تحتاج للبحث في صيدليات الله عن دواء اسمه الأمل يخرجها من عتمتها ويفتت الصديد في تلافيف مخ أعدائها من الداخل, وأشهد يانيل مصر يامن وهبت لنا الحياة علي ضفتيك بالتاريخ والجغرافيا.