للشاعر الانجليزي( شكسبير) توصيف لمن يشغله هم معين لا يبارحه بأن ثمة( نحلة لاتتوقف عن الزن والطنين تحت قبعته). وإني لأشعر بهذه الحالة في معاناتي لما في تعليمنا من شعاب ومتاهات. ويحتد الطنين مع تأمل أوضاع التعليم الخاص/ الأجنبي وإشكالياته بسبب تأثيراته السلبية علي مسار جهودنا لبناء مجمتع ديمقراطي متماسك. وتستفحل آثاره مع انتشاره الهائل والمقترن بضعف حيوية التعليم الجامعي الرسمي, وتسييد أيديولوجية السوق والخصخصة التي تزعم التدني في مخرجات كل ماهو رسمي. لقد تكونت لدينا منظومة متكاملة من التعليم الخاص/ الأجنبي من رياض الأطفال حتي الجامعة, ومع قليل من التأمل لتأثيرها في الميزان القومي يتجلي لنا أنه يخدم كفة التمايز بدلا من الحق والعدالة, وتغليب دوافع التربح من سلعة التعليم علي دور الخدمة العامة, وتكوين الزبون السوقي بديلا عن المواطن المصري المنتمي. ويبرر ذلك أنصاره ومريدوه بأنه يقدم تعليما متطورا, في مواجهة تعليم تقليدي ليلاحق متطلبات الحداثة واكتساب مفاتيح ثورة المعلومات والاتصالات ووسائلها العلمية والتكنولوجية وتنمية قدرات التفكير والإبداع بدلا من أساليب التلقين والحفظ والاتباع. وهنا نتساءل من قال إن التعليم الجامعي الرسمي غير قادر علي تحقيق وتنمية كل تلك الآفاق والقدرات. إنها مسئوليتنا حين اصطنعنا سياسات تعليمية زائفة, يمسح لاحقها سابقها, ومع قصور مزمن في الموارد المتاحة. واكتفينا بخداع التحديث شكلا ومظهرا وتقليدا, وشعارات, لافكرا وتفكيرا وتخطيطا والتزاما وإنجازات. ومما يستحق الالتفات في انتشار المدارس والجامعات الخاصة/ الأجنبية تفسير بعض علماء الاقتصاد بأن هذا النمط من التعليم إنما ينشد تعليم نخبة بلغة دولته لخدمة استثماراته في الدولة أو المنطقة التي تنتشر فيها مدارسة وجامعاته. ومن ثم تتوافر للخريجين مؤهلات العمل وفرصة في مشروعاتهم داخل تلك الدول, أضف إلي ذلك تشجيع الخريجين للهجرة إلي دولهم والعمل في سوقها بسبب نقص أعداد الشباب من خريجي جامعاتها والناجم عن وضعها الديموغرافي الذي يتسم بالانخفاض الشديد أو حتي التوقف في معدلات النمو السكاني, ومن هذه النخبة من خريجي التعليم الخاص/ الأجنبي تتوافر لديها بتكلفة رخيصة نسبيا احتياجاتها من قوة العمل المدربة لخدمة استثماراتها لدينا وفي أقطارها وبالتالي نفقد الإفادة من كثير من خريجي هذه الجامعات في مجالات التنمية القومية. وأحسب أنه ليس لسواد عيوننا كما يقال أن تتنامي وتتنافس الجامعات الخاصة/ الأجنبية لا في مصر وحدها بل في جميع الأقطار العربية تحت مظلة التحديث. لدينا في مصر حاليا(28) جامعة خاصة وليس كما ورد في مقالنا السابق. وكثير من تلك الجامعات تحمل تسمية تحمل الدولة التي تنتمي إلي مناهجها من الأمريكية أو الروسية أو الألمانية أو الفرنسية أواليابانية... الخ وليس عشقا لعيونها أيضا أن يكون في قطر(6) فروع لبعض أشهر الجامعات الأمريكية( هارفارد, إم آي تي, وجونز هوبكنز, برنستون... الخ) وفي الإمارات العربية المتحدة مجموعة من جامعات خاصة/ أجنبية, من بينها أشهر الجامعات الفرنسية( السوربون). ومن العجب أن يتحول تعليم إعداد المعلم في كلية التربية( جامعة العين) من اللغة العربية إلي الانجليزية, وكذلك الشأن في معظم الكليات الأخري!! وفي الكويت ينشأ فرع لجامعة استرالية. وفي السعودية تأسست حديثا أول جامعة أمريكية( جامعة الملك عبد الله.) وفي لبنان(16) جامعة خاصة أمريكية, وفرنسية, وفي الأردن(15) جامعة خاصة علي النمط الأمريكي, ولم تتخلف عن هذا التوجه الجزائر والمغرب. وفي كل هذه الجامعات تجري الدراسة بلغة أجنبية لمناهجها الخاصة. وتحظي باهتمام وشهرة ونمو في أعداد طلابها, بينما تظل الجامعات الوطنية في الظل تلقف أنفاسها في معظم الأحوال. ويتساءل المرء ماذا سوف يتمخض عن تأثير هذه الجامعات الخاصة/ الأجنبية علي الأفق الزمني القريب والبعيد من مصير لهوية هذا العالم العربي وربما لمقومات وجودة؟!!. وقد طرح نفس هذا التساؤل شاعرنا وأديبنا الناقد فاروق جويدة في مقالين سابقين في صحيفة الأهرام!! ومن العجائب أنه في هذا الوقت تتردد في خطط تطوير التعليم الجامعي الرسمي في مصر ثنائية كئيبة من الإجراءات تتجه نحو تقليل أعداد الملتحقين بمؤسساته. وثانيها إدارة جامعاتنا علي نمط المؤسسات الاقتصادية المتضمنة استرداد كلفة سلعة من التعليم الطلاب. وبذلك في نظر الوزارة يصح جسم التعليم الجامعي الرسمي ويتاح له منافسة التعليم الخاص. فالسياسة تتجه إلي إنقاص الأعداد وليس إلي مضاعفة مؤسساتها. ونتذكر في هذا الصدد التوصية الرشيدة للمجالس القومية المتخصصة منذ نحو15 عاما بضرورة السعي إلي توفير جامعة متكاملة لكل(2) مليون من سكان مصر, مما يعني أن يكون لدينا حاليا أكثر من(40) جامعة رسمية. وحين نعود إلي خريطة التعليم فسوف نلاحظ المفارقات في أنشطة الجامعات الخاصة ذاتها. وفيما بينها والجامعات الرسمية من حيث مبانيها وشروط القبول ومصروفات التعليم ومناهجها ولغة تعليمها. ولعل أخطر مفارقاتها مع التعليم الرسمي تقاضيها مصروفات باهظة تتراوح بين(30) ألفا إلي(50) ألف جنيه في السنة, أي بما يقدر بنحو ثلاثة وثمانية أمثال متوسط دخل الفرد السنوي في مصر. ومن ثم يقتصر الالتحاق بها علي الشريحة العليا من طبقات المجتمع والتي لايتجاوز حجمها2% من مجموع الشرائح المجتمعية. هذا فضلا عن أن خريجيها. سوف يحتكرون فرص العمل واحتلال مواقع النخبة في إدارة شئون المجتمع مستقبلا. وتتوقف طموحات خريجي التعليم الرسمي في فرص الحراك الاجتماعي. وهكذا تتجلي تأثيرات اتساع الفجوة في فرص الحياة بين مختلف الشرائح الاجتماعية مما يؤدي إلي التفسخ الطبقي في الكيان الاجتماعي, وحدوث الوهن والتوتر في لحمة النسيج الاجتماعي وتماسكه. ويترتب علي ذلك أيضا احتدام مظاهر التفاوت والتناقض في الرؤي الفكرية والقيمية واختلال ميزان العدالة في حقوق الإنسان والتواصل في مجالات الثقافة القومية. وبذلك تتدهور وشائج الانتماء والهوية الوطنية والقومية. وحين تستفحل هذه الظواهر وانحلال الوشائج فساعتها لن ينفعنا حاسوب أو حداثه, ولن يرحمنا تاريخ ولامستقبل.