الشخصية المصرية من المفهومات المحببة للنفس, فكرا, وسلوكا, استقرارا وتغيرا, وذلك قد يغري بأن يتناولها من لايعرفون, إلي جانب من يعرفون. وقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الشخصية المصرية, ويعد ذلك من باب العزف علي وتر قديم, لكنه عزف صحي علي أية حال, فالمفهوم يدعونا إلي مزيد من المعرفة الجادة, وينأي بنا عن الهزل والسطحية. ومن قبيل الهزل في تناول الشخصية المصرية وجود اصطلاحات أحادية مثل مصطلح الحداقة, ومصطلح الفهلوة, ومصطلح البلطجة, والفهم علي الطاير يري أصحابها أنها وحدها كافية لفهم الشخصية المصرية, وتفسير سلوك المصريين علي اختلافهم ريفا وحضرا, وتعليل تعدد الطبقات وتفاوتها. وفي رأيي أن هذا نوع من التعميم المخل, المتعجل, والمخالف أيضا لأسس المهنة ولأن الشيء بالشيء يذكر, فهناك من يري أن الأنا مالية نسبة إلي وأنا مالي وهي صفة تعبر عن الأنانية والفردية, وتعد أساس تفسير الشخصية المصرية, ومفتاح فهمها من قبل أصحابها. ومن أساتذة الجامعة من يستخدم السيرة الذاتية علي انها تحدد قسمات الشخصية المصرية, وذلك موجود في بعض الكتب التي يذكر فيها مؤلفوها تاريخ عائلاتهم, وعاداتهم الخاصة, ومكانة المرأة في العائلة.. الأم والأخت والبنت, وينسون أن السيرة الذاتية لا تصلح أن تكون توأما للشخصية المصرية, فهي لا تنطبق علي المصريين في كل الأزمان والمراحل التاريخية, كما انها لا تسري إلا علي الطبقة التي يأتي منها المؤلف ولا تنسحب علي الطبقات الأخري. وليست كل البحوث في الشخصية المصرية بحوثا رصينة, فإن بعضها يذكرني في سرعة تصميمه, وسطحية معلوماته, وكثرة تعميماته, وغياب الموضوعية عنه, بأبحاث طلابنا في الجامعة, التي نكلفهم بها بقصد التدريب علي البحث والدراسة, وتصحيح الأخطاء في السنوات الجامعية الأولي. والحديث عن الشخصية المصرية بشكل جاد هو التزام علمي وأخلاقي في الوقت نفسه, فإطلاق الصفات جزافا, وتعميم نتائج لا تتفق مع المقدمات, والقفز من دراسة محدودة علي عينة ضئيلة إلي ما يشبه القوانين, واختزال الشخصية المصرية إلي سيرة ذاتية وإطلاق التعميمات بعد ذلك, كل هذا إخلال بما تفرضه أخلاقيات البحث العلمي في حدود منهجه, واستخدام طرقه, وأدواته. ومن يدرس الشخصية المصرية لابد له أن يهتم بثوابتها, ومتغيراتها علي السواء, فتأمل الثوابت يطلعنا علي أسباب بقائها, أما التغيرات في الشخصية المصرية فمن المهم أن نكشف عنها, وهنا تتضح أهمية مفهومي التغير الاجتماعي والحراك الاجتماعي, اللذين يلعبان دورا مهما في التغيرات التي تحدث في الشخصية المصرية. والتغير الاجتماعي هو تغير في البناء والوظيفة, والتنظيم الاجتماعي, أي انه يشمل التغيرات التي تطرأ علي كل جوانب الحياة في المجتمع, أما الحراك الاجتماعي فانه يشير الي نوع من التدرج الهرمي للمكانة توزع علي أساسه امتيازات الثروة والقوة والمكانة, وتعمل التغيرات هنا علي جذب الأشخاص من المراتب الأدني الي المراتب الأعلي. ويمكننا تفسير كثير من التناقضات في الشخصية المصرية المعاصرة, علي أنها انعكاسات للتحولات الاجتماعية التي أدت الي حدوث تغيرات في الطبقات الاجتماعية والقيم, وفي الثقافة المصرية السائدة. أما إذا اردنا أن نعرف مثالا علي الثوابت في الشخصية المصرية, فإن قصة الفلاح الفصيح هي خير مثال, فهي وثيقة علي جانب كبير من الأهمية كتبت منذ زهاء أربعة الاف عام, وتصور بوضوح الظلم الذي كان يعانيه الفقراء علي أيدي الموظفين, وهي مشكلة لم تحل حتي أيامنا هذه حلا حاسما. وتتلخص تلك القصة في أن موظفا صغيرا اغتصب من أحد الفلاحين حماره وأحماله من القمح وغيره, بينما كان في طريقه إلي السوق لبيعها ليشتري بثمنها ما يقيم أود أسرته الكبيرة, وعندما هدد الفلاح الموظف بأنه سيشكوه إلي رع رب السماء ضربه الموظف ضربا مبرحا, اثار ذلك السلوك مشاعر الفلاح وكرامته, الذي تصادف انه كان ذكيا فصيحا, فاتجه الي المدير العظيم للبيت ووجه اليه تسع خطب يحثه فيها علي إنصافه, وهذه الخطب التسع تعبر تماما عن الوعي المصري للعدالة الذي لم يتغير حتي وقتنا هذا. وقال له فيها: أنت رع رب السماء, احم البائس, ولا تخطئ لأنك أنت الميزان, ثم يقول له: في الخطبة الثامنة, أنت رع رب السماء, فلتعمل من أجل العدل, إن العدالة هي الخلود. ويذكر إيرون زايدل أستاذ الاجتماع القانوني أن مصر بلد تكثر فيه المقاضاة, فالمحاكم واجراءاتها حديث الخاصة والعامة, وهذه الظاهرة لاتزال فاعلة حتي الان. وبرغم وجود عديد من المؤثرات الفاعلة في الشخصية المصرية, كالدين, والمستوي الاجتماعي الاقتصادي, والريفية مقابل الحضرية, فإننا نجد أن الأمثال الشعبية دون غيرها من الفنون الشعبية تتردد علي ألسنة العامة والخاصة, بل وتقتحم اللغة المكتوبة بعفوية شديدة.. سواء في الأعمال الدرامية أو الأدبية أو في المقالات الصحفية, وحتي في الكتابات السياسية نجد أن الأمثال تتردد في ثناياها, بل في عناوينها, بوصفها خلاصة القول وصفوته, والمعني الأكثر تركيزا لشرح الأمور التي يصعب شرحها. فالأمثال معين مهم لمن أراد أن يفهم الشخصية المصرية بجدية, فهي تراث شعبي يمتاز بأصالته, لأنها من صنع الناس أنفسهم, فهي معبرة عن أحوالهم, نابعة من بيئتهم, وعلي هذا الأساس يمكن ان يقال إن الأمثال هي البضاعة المحلية الخالدة من كل غريب مستورد.. وهي النتاج البكر الذي يتوارثه الخلف عن السلف علي مر الزمان, دون أن تشوبه نسيجه الساذج تقلبات الأيام, أو شوائب التأثر بثقافات أخري عابرة أو وافدة. إن دارس الشخصية المصرية لابد ان يكون مولعا بها, فاهما لأخص خصائصها, متمتعا بعقلية تملك القدرة علي التحليل, والنقد عالما بتطوراتها في المراحل التاريخية المختلفة, فإن ذلك يتيح الفرص لإعادة بناء الفرد والمجتمع في مصر, وإنجاح محاولات الإصلاح فيها. وجدير بالذكر ان البحث الجاد في الشخصية المصرية لايوجد فقط في كتب الثقافة ممن درسوها, ولا هو قاصر علي علي مؤلفات المتخصصين من علماء النفس, والاجتماع, والاقتصاد, والقانون, والسياسة. بل انه لابد ان يتجه الي الأدب ليستقي منه ما لايعطيه له غيره من معلومات متعمقة, وتحليلات فريدة عن الشخصية المصرية. نجد ذلك في كروان طه حسين, وأيامه, وثلاثية نجيب محفوظ وحرام يوسف ادريس, وفي أرض عبد الرحمن الشرقاوي, وقنديل يحيي حقي, وفي الزوجة الثانية لأحمد رشدي صالح, وفي غيرها وغيرها من الأعمال الأدبية الكاشفة عن الشخصية المصرية بكل أوجهها, بثباتها وتغيرها, بإيجابياتها وسلبياتها. إن مثل هذه الأعمال الأدبية الرائعة تصلح ولاشك لفهم معني البقاء والاستمرار في الشخصية المصرية.