بعد أربع سنوات من رحيل أديبنا الأكبر نجيب محفوظ يطرح علينا أديب نوبل قضية مهمة خاصة برعاية الجيل الجديد من الأدباء وكيفية إتاحة الفرصة أمامهم للتفرخ للكتابة, وذلك من خلال مقال قديم وغير معروف نشره محفوظ عام1959 في مجلة الأدب التي كانت تصدر آنذاك, وكأنه قد نشره اليوم. وإذا كانت ذكري رحيل أديب نوبل الكبير قد هلت علينا منذ أيام دون أن نتذكره فيها, فإنه من جانبه قد ترك لنا مايثبت أنه كان دوما مهموما بالأدب والأدباء وكيفية رعايتهم وكأنه حاضر معنا لم يغب فقد كتب في مقاله المذكور والذي كان يحمل عنوان تفرغ الأدباء يطالب الدولة بأن تجد من الوسائل مايكفل تفرغ الأديب لأدبه, كما يتفرغ الطبيب أو المهندس كل لعمله. ويستعرض محفوظ وضع الأدباء في الغرب وفي الشرق فيقول أن الأديب في الدول الغربية بإمكانه أن يتفرغ لأدبه, فدخله من كتبه يكفيه في أغلب الأحيان كي يلبي احتياجاته المعيشية, ذلك إن لم يكن كاتبا مشهورا تبيع كتبه بالملايين وتدخل له الملايين أيضا. أما في دول الكتلة الشرقية حيث ثمن الكتب منخفض فإن الدولة الاشتراكية سنت نظاما لتفرغ الأدباء, ولابد أن محفوظ لمس ذلك بنفسه حيث كانت يوجوسلافيا مثلا من بين الدول التي زارها في الرحلات النادرة التي قام بها مرغما الي خارج البلاد. ويتطرق محفوظ من تفرغ الأدباء الي كيفية احتضان ورعاية مواهبهم فيقول أنه في روسيا مثلا يلتحق كل ما لديه استعداد أدبي بمعهد خاص بعد تخرجه في الجامعة, ويعطي الفرصة للتفرغ للانتاج نظير مرتب ثابت, فإذا ألف كتابا فإن الدولة تقوم بنشره وتوزيعه وتحفظ له نسبة معقولة من الأرباح, وهكذا نجد أن كل من لديه استعداد أدبي خاص لا تتوزع جهوده في أعمال أخري غير الانتاج الأدبي. وإذا كان محفوظ قد اهتم بمصير الأدباء وانشغل بالبحث عن أفضل الطرق لاتاحة الفرصة لهم للتركيز علي انتاجهم الأدبي فذلك لايمانه بأهمية الأدب والثقافة في المجتمع وبواجب الدولة في رعايتها ولحرصه علي الأدباء وسبل معيشتهم, فقد إنكوي هو نفسه بنار الحاجة لوظيفة تيسر له سبل الحياة, وكان يشعر طوال الوقت أن هذا كان بلا شك علي حساب انتاجه الأدبي, إذ يقول: أما في بلادنا فإن الأديب لا يستطيع ولعدة سنوات قادمة, أن يعيش من انتاجه لذلك نجد معظم أدبائنا, إن لم يكن كلهم, يعملون في أعمال أخري غير الأدب كالتدريس في الجامعة أو في المدارس, وفي الوظائف الحكومية أو الصحافة, ثم يشير لتجربته الشخصية فيقول إنه عين عقب تخرجه في إدارة الجامعة من عام1935 الي عام1939, وأن عمله كان بسيطا وفي وقت محدود من الصباح الي الظهر فقط, فكان انتاجه غزيرا حيث ترجم كتاب مصر القديمة وكتب عشرات المقالات في الفلسفة والاجتماع والنقد الأدبي وعلم النفس, كما أصدر أربع روايات هي عبث الأقدار وكفاح طيبة ورادوبيس والقاهرة الجديدة بالاضافة الي مايزيد علي مائة قصة قصيرة مازالت في حاجة لمن يجمعها من الدوريات التي نشرت فيها ويصدرها في كتاب. علي أن محفوظ اضطر بعد ذلك للعمل بوزارة الأوقاف ثم مصلحة الفنون وكان يعمل في الصباح والمساء, فلم ينتج خلال20 عاما إلا خان الخليلي وزقاق المدق وبداية ونهاية والسراب والثلاثية. ثم يعرج محفوظ علي قضية في غاية الأهمية وهي ثقافة الأديب, فيقول أن الأديب المرتبط بعمل يومي ثابت لن يستطيع ان يجاري الزمن في الاطلاع الثقافي العميق, ولا يستطيع مواصلة القراءة النامية الواعية المحيطة التي هي ألزم له من الطعام بل يضطر الي الخطف علي حد تعبير الدكتور طه حسين. أو قد يقرأ في أحسن الأحوال كما يقرأ أي موظف أو أي مثقف عادي لا كما ينبغي ان يقرأ الأديب الجاد المقدر لدوره ومسئولياته, لذا نجد يقول أن أكثر ماكان يزعجه في فترة ال20 عاما المذكورة ليس قلة الانتاج وانما قلة ماحصلته من الغذاء الفكري الضروري فلا شك أنه كان من الممكن أن يكون أضعاف ماحصلته لو أتيح له شيء من الفراغ. ثم ينهي أديبنا الأكبر مقاله قائلا أن أغلي أمانيه في الحياة أن تتاح لي فرصة الاستقرار والتفرغ للعمل الأدبي, لكني لا أريد مع ذلك أن يأتي شهر أضطر فيه الي اقتراض النقود, لذلك فأنا الآن موظف ثم سيناريست ثم أديب بعد ذلك, أي أن الأدب مهنتي الثالثة, ولو ضمنت لي الدولة مائة جنيه في الشهر لكان هذا تقديرا أفضل من جائزة الدولة, ولقدمت لها كل انتاجي الأدبي لنشره في كتب أو اعداده للمسرح والسينما دون مقابل, واعتقد أنها لن تكون الخاسرة. تري لو كانت أمنية أديبنا الأكبر قد تحققت كم من الروائع الأخري كان قد أضاف لروائعه الحالية؟!