«جبران»: اختبارات جديدة للمرشحين للعمل بالأردن في مجالات الزراعة    سعر الذهب اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025 في مصر.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    وزير العمل: نواجه جميع أشكال عمالة الأطفال بالتوعية والتدريب والتفتيش والحماية    ترامب يعتزم الاتصال هاتفيا ببوتين بعد محادثات اليوم مع زيلينسكي    ضياء رشوان: مقترح وقف إطلاق النار فرصة كبيرة لإسرائيل لإيقاف تداعيات غير مسبوقة داخلها    التشكيل الرسمي لمباراة ليدز ضد إيفرتون في الدوري الإنجليزي الممتاز    «ردًا على المفاجآت المدوية».. قناة الأهلي تكشف مستجدات قضية الدوري في المحكمة الرياضية    الفرق بين المواد الدراسية في الشهادة الثانوية والبكالوريا    منافسة ثنائية وصدام مستحيل.. موسم شاق ينتظر عمر مرموش في السيتي (تحليل)    قائمة ريال مدريد - ظهور ماستانتونو لأول مرة أمام أوساسونا.. وتواجد الصفقات الجديدة    رومانو: بعد إصابة لوكاكو.. نابولي يخاطب مانشستر يونايتد من أجل مهاجمه    قبل لقاء زيلينسكي وقادة أوروبيين.. ترامب: حرب روسيا وأوكرانيا هي حرب بايدن «النعسان»    فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يكشف تعاطي سائق نقل ذكي المخدرات وضبطه بالقاهرة    تقصير أم نفاق؟ أمين الفتوى يجيب على سؤال حول الفتور فى العبادة    إيهاب توفيق وفرقة كنعان الفلسطينية يضيئون ليالي مهرجان القلعة الدولي للموسيقى والغناء    مدينة إسنا تجرى إصلاحات شاملة لطريق مصر أسوان الزراعى الشرقى    برشلونة يرفض ضم نجم إنتر ميلان    أسامة السعيد: الموقف المصرى تجاه القضة الفلسطينية راسخ ورفض للتهجير    المسلماني ونجل أحمد زويل يزيحان الستار عن استديو زويل بماسبيرو    يتضمن 20 أغنية.. التفاصيل الكاملة لألبوم هيفاء وهبي الجديد    محافظ الوادي الجديد يعتمد النزول بسن القبول بالصف الأول الابتدائي بالمدرسة الرسمية الدولية    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد دار إيواء المستقبل (صور)    الأعلى للإعلام يعلن انطلاق الدورة التدريبية ال61 للصحفيين الأفارقة    «بيطري قناة السويس» تُطلق برامج دراسات عليا جديدة وتفتح باب التسجيل    تووليت وكايروكي يحيون ختام مهرجان العلمين الجديدة (أسعار التذاكر والشروط)    تعرف على الفيلم الأضعف في شباك تذاكر السينما الأحد (تفاصيل)    وكيل الأزهر: مسابقة «ثقافة بلادي» نافذة لتعزيز الوعي ونقل صورة حقيقية عن مصر    هل المولد النبوي الشريف عطلة رسمية في السعودية؟    البحوث الفلكية : غرة شهر ربيع الأول 1447ه فلكياً الأحد 24 أغسطس    الرقابة المالية: 3.5 مليون مستفيد من تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر حتى يونيو 2025    هل يتم تعديل مواعيد العمل الرسمية من 5 فجرًا إلى 12 ظهرًا ؟.. اقتراح جديد في البرلمان    اختبارات للمرشحين للعمل بالأردن في مجالات الزراعة.. صور    الليلة.. عروض فنية متنوعة ضمن ملتقى السمسمية بالإسماعيلية    "العدل": على دول العالم دعم الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من أرضهم    نسف للمنازل وقصف إسرائيلي لا يتوقف لليوم الثامن على حي الزيتون    وزير الأوقاف ناعيا الدكتور صابر عبدالدايم: مسيرة علمية حافلة بالعطاء في خدمة اللغة العربية    مصرع عامل وطفل فى انهيار منزل بدار السلام بسوهاج    حبس المتهمين بالتخلص من جثة صديقهم أثناء التنقيب عن الآثار في الشرقية    الصحة العالمية تقدم أهم النصائح لحمايتك والاحتفاظ ببرودة جسمك في الحر    الداخلية تكشف ملابسات مشاجرة بعصى خشبية أمام محل تجاري في الإسكندرية    "كان واقف على الباب".. مصرع شاب سقط من قطار الصعيد بسوهاج    القوات الإسرائيلية تعتقل 33 عاملاً فلسطينيا جنوب القدس    وزير المالية: مستمرون في دفع تنافسية الاقتصاد المصري    الشيخ خالد الجندي: مخالفة قواعد المرور معصية شرعًا و"العمامة" شرف الأمة    رضا عبدالعال: خوان ألفينا سيعوض زيزو في الزمالك.. وبنتايج مستواه ضعيف    أيمن الرمادي ينتقد دونجا ويطالب بإبعاده عن التشكيل الأساسي للزمالك    في يومها الثالث.. انتظام امتحانات الدور الثانى للثانوية العامة بالغربية    يحتوي على غسول للفم.. كيف يحمي الشاي الأخضر الأسنان من التسوس؟    «الديهي»: حملة «افتحوا المعبر» مشبوهة واتحدي أي إخواني يتظاهر أمام سفارات إسرائيل    أسعار البيض اليوم الإثنين 18 أغسطس في عدد من المزارع المحلية    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    كلية أصول الدين بالتعاون مع جمعية سفراء الهداية ينظمون المجلس الحديثى الرابع    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    إصابة 14 شخصا فى تصادم ميكروباص وربع نقل على طريق أسوان الصحراوى    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    استقرار أسعار النفط مع انحسار المخاوف بشأن الإمدادات الروسية    نشرة أخبار ال«توك شو» من «المصري اليوم».. متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن سرقة الأعضاء البشرية.. أحمد موسى يكشف سبب إدراج القرضاوي بقوائم الإرهاب    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المغالطات في قصة زهرة الخشخاش
نشر في الأهرام اليومي يوم 01 - 09 - 2010

تناثرت في الفترة الأخيرة معلومات كثيرة مغلوطة بمناسبة السرقة التي حدثت في متحف محمد محمود خليل وحرمه‏,‏ وقد يدهش البعض حين يعلم أن اللوحة التي سرقت ليس اسمها زهرة الخشخاش‏,‏ وأن اسم صاحبها لا ينطق فان جوخ‏,‏ وأنها ليست من بين أعماله المهمة‏,‏ وأنها لا تساوي الآن‏55‏ مليون دولار‏,‏ كما أنها ليست لوحة مزيفة أيضا‏.‏
أما أكبر المغالطات التي ترددت حول هذا الموضوع فهي أن محمد محمود خليل أوصي بأن تتحول مجموعته الفنية إلي متحف للشعب‏,‏ وهو ما لم يحدث علي الإطلاق‏.‏
فاللوحة المقصودة التي لا تزيد مساحتها علي‏53‏ سم‏*64‏ سم وردت لأول مرة في السجل الرسمي لمجموعة محمد محمود خليل بالاسم الذي اشتريت به وهو‏vaseetfleurs‏ أي آنية وزهور‏,‏ ولست أعرف لماذا أطلقنا عليها اسم زهرة الخشخاش؟ ربما كوسيلة لوصف موضوعها‏,‏ برغم أن الزهور الصفراء التي تملأ الآنية وتشكل قلب اللوحة ليست زهرات الخشخاش الحمراء‏,‏ وإنما زهور أخري صفراء اللون تعرف باسم‏genet‏ بالفرنسية و‏gennet‏ بالإنجليزية وهي من فصيلة المارجريت ويطلق عليها بالعربية اسم زهرة الوزال‏,‏ ولا يوجد في الآنية إلا زهرتان وحيدتان من نوعية الخشخاش في الركن الأيسر السفلي من اللوحة‏.‏
لذلك فحين ذهبت اللوحة ضمن مجموعة محمد محمود خليل إلي فرنسا للترميم عام‏1994‏ وعرضت المجموعة بعد ذلك كاملة في متحف أورساي بباريس عرضت باسمها الأصلي وهو آنية وزهور وأضيف إليها عنوان فرعي هو‏genetsetcoquelicsts‏ أي زهور وزوال وخشخاش ولم تعرض اللوحة باسم زهرة الخشخاش‏.‏
أما عن اسم الفنان الذي أبدع اللوحة فهو يعرف في بلده هولندا باسم فان خوخ وليس فان جوخ‏,‏ وهذه اللوحة ليست من أهم أعماله فقد رسمت عام‏1886‏ في بداية وصول الفنان إلي باريس واهتمامه في ذلك الوقت بالزهور‏,‏ وهي لا تحمل السمات الفنية التي ميزت أعماله فيما بعد وجعلت منه أحد أشهر الفنانين في العالم‏,‏ ويري مؤرخو الفن أنه كان متأثرا فيها بأعمال فنان ريفي من مرسيليا يدعي أدولف مونتشيللي‏(1824‏ 1886),‏ كان فان خوخ يكن له إعجابا كبيرا في تلك المرحلة الأولي من حياته‏,‏ ومن يريد بيان التشابه بين هذه اللوحة وأعمال مونتشيللي لا يحتاج للذهاب بعيدا‏,‏ ففي متحف محمد محمود خليل نفسه توجد لوحة لمونتشيللي بنفس مساحة لوحة فان خوخ تقريبا تحمل عنوان باقة من زهور الحقل في آنية‏,‏ وتشير بوضوح إلي تأثير هذا الفنان علي لوحة فان خوخ موضوع حديثنا‏.‏
ولقد توصل فان خوخ‏(1853‏ 1890)‏ إلي أسلوبه الفني الخاص خلال السنتين التاليتين علي رسمه لهذه اللوحة‏,‏ وقد أمضاهما يرسم كل أنواع الزهور خاصة زهرة عباد الشمس التي اشتهر بها ورسمها‏,‏ كما لم يرسمها أحد من قبل فأصبحت هي علامته المميزة‏,‏ ولقد بيعت إحدي تلك اللوحات منذ بضع سنوات بنحو مائة مليون دولار‏,‏ وكان هذا هو أعلي سعر حققته أعمال فان خوخ في سوق الفن الدولية‏,‏ أما بقية أعماله فتتراوح أسعارها ما بين الخمسين مليونا والمائة مليون‏.‏
علي أن تعدد أسماء لوحة فان خوخ لا يشكك بأي حال من الأحوال في أصالتها‏,‏ كما أن كونها ليست من أعظم أعمال الفنان لا يقلل بأي حال من الأحوال من قيمتها‏,‏ فتوقيع الفنان علي أي سطح ملون يساوي في حد ذاته الملايين‏,‏ من هنا فإنه لا يمكن التهوين من فداحة حادث السرقة المؤسف الذي وقع‏,‏ ولا ينبغي الالتفات لما يقال من أن اللوحة كانت مزورة اعتمادا علي أنها سرقت عام‏1977,‏ وأن ما تم إعادته كان نسخة مزورة منها‏,‏ فتلك مغالطة أخري من المغالطات التي ترددت في الأيام الأخيرة‏.‏
وتعود هذه القصة لعام‏1988‏ حين قرأ الأديب الراحل يوسف إدريس عن أن لوحة لفان خوخ تمثل زهورا بيعت بإحدي قاعات المزاد في لندن ب‏43‏ مليون دولار‏,‏ وكان الكاتب الكبير الدكتور يوسف إدريس رحمه الله شديد الانفعال في ردود أفعاله‏,‏ كما هو معروف‏,‏ فكتب علي الفور علي صفحات الأهرام في شهر يونيو من ذلك العام يقول إن اللوحة التي أعيدت لنا بعد السرقة هي نسخة مزيفة‏,‏ وإن اللوحة الأصلية قد بيعت أخيرا في لندن‏,‏ مما أثار زوبعة هائلة في ذلك الوقت‏.‏
ولما كنت آنذاك وكيلا لوزارة الثقافة ومسئولا عن العلاقات الثقافية الخارجية فقد كلفني الوزير فاروق حسني باستجلاء الأمر‏,‏ فأرسلت رسميا لقاعتي كريستي و سوذبي في لندن أسأل عن لوحة فان خوخ التي بيعت أخيرا فجاءني ما يفيد أنها كانت إحدي لوحاته الصغيرة المعروفة المصدر ولم تكن مسروقة‏,‏ وأن الزهور التي كانت بها كانت زهور إيريس وليست الزهور التي في لوحتنا‏.‏
والحقيقة أنه قد تم إرسال أوصاف لوحتنا عند سرقتها إلي البوليس الدولي‏,‏ ولم يكن من الممكن للوحة أن تباع في أي مكان عام وأوصافها موجودة لدي الإنتربول‏,‏ فما بالك ب كريستي و سوذبي وهما أكبر قاعتين في العالم‏.‏
أما شهادة الأصالة الأهم في رأيي فهي تلك التي توصل إليها فاروق حسني حين اتفق في عام‏1994‏ مع متحف أورساي بباريس علي ترميم مجموعة اللوحات الفرنسية الموجودة في مصر والخاصة بمتحف محمد محمود خليل وحرمه ومتحف الجزيرة وهي مجموعة مهمة‏,‏ وعمل الصيانة التي عادة ما تحتاجها اللوحات الفنية بين آن وآخر في مقابل أن تعرض المجموعة كاملة في متحف أورساي بباريس في نهاية ذلك العام قبل عودتها للقاهرة‏.‏
فإلي جانب عملية الترميم خضعت لوحات المجموعة التي تمثل ثروة تقدر بمئات الملايين لعملية توثيق علمية‏,‏ تم من خلالها تتبع تاريخ كل لوحة وعرضها علي الخبراء للتأكد من أصالتها‏,‏ وهكذا تم التأكد مثلا من أن تمثال بلزاك الموحود ضمن المجموعة هو بالفعل للمثال الكبير رودان برغم أنه لا يحمل توقيعه‏.‏
وقد أصدرت فرنسا بهذه المناسبة كتابا ضخما حول المجموعة المصرية سمته لوحات القاهرة المنسية‏Lesoubliesducaire‏ أصبحت اللوحات المصرية بموجب ذلك جزءا من الكتالوج العالمي لفنون القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين‏,‏ أما بالنسبة لنا فقد كانت تلك هي الشهادة الدامغة بأصالة مجموعتنا من عقر دار الفن الفرنسي‏.‏
لذلك لم أفهم كيف يتحدث أحد ثانية عن أن لوحاتنا مزيفة أو أن لوحة فان خوخ المسروقة مزيفة؟ إن السعر الموضوع علي اللوحة وهو‏55‏ مليون دولار هو ذلك الذي قدرته جهات التأمين الفرنسية لهذه اللوحة حين ذهبت لفرنسا‏,‏ وكان ذلك منذ‏16‏ عاما‏,‏ مما يعني أن سعرها يمكن بسهولة أن يكون قد تضاعف الآن‏,‏ فهل كانت ستدفع فرنسا هذا المبلغ في لوحة مزيفة؟
ومع ذلك فلم تكن لوحة فان خوخ هي أغلي لوحات المجموعة التي تضم روائع لديلا كرواه وأنجرو تولوز لوتريك ورونوار وديجا ومونيه ومورو ورودان وغيرهم‏,‏ وقد قدرت لوحة بول جوجان الشهيرة الحياة والموت علي سبيل المثال بأكثر من لوحة فان جوخ حيث وصل سعرها إلي‏83‏ مليون دولار في ذلك الوقت‏.‏
ومن الغريب أن من يطلقون هذه الأقاويل هم الذين ينددون بحادث السرقة‏,‏ فكيف نأسف علي سرقة ما هو مزيف؟ لقد كانت اللوحة أصلية بشهادة بيوت الخبرة الفرنسية وحادث السرقة لا يمكن التقليل من شأنه‏,‏ فهو حادث فادح مثله مثل أي حادث سرقة آخر للأعمال الفنية في العالم‏,‏ وهي حوادث كثيرة ومتكررة حيث يقدر متوسط أحداث السرقة في المتاحف الفرنسية وحدها ب‏35‏ حادثا في كل عام‏,‏ ومعظم هذه الأعمال مازالت مفقودة حتي الآن‏,‏ وقبل سرقة لوحة فان خوخ من متحف محمد محمود خليل بثلاثة أيام فقط‏,‏ أي في يوم‏18‏ أغسطس الحالي سرق من متحف بلفور بمدينة بروج في بلجيكا تمثال للفنان السريالي سلفادور دالي يزن عشرة كيلوجرامات وضعه أحد الزوار في حقيبة‏!!‏ وخرج به من المتحف دون أن تصوره الكاميرات ودون أن تنطلق أي صفارات من أي نوع‏,‏ وفي مايو الماضي سرق من متحف الفن الحديث بباريس لوحات قيمتها‏127‏ مليون دولار لبيكاسو وماتيس ومودلياني وبراك بعد أن تم قطعها من إطارها بالطريقة نفسها التي سرقت بها لوحتنا‏,‏ ولم يتم العثور علي أي منها حتي الآن‏.‏
ويقدر عدد اللوحات المسروقة التي مازالت مفقودة حتي الآن بما لا يقل عن‏200‏ لوحة من بينها ست لوحات لفان خوخ وحده تضاف إليها بالطبع لوحته التي سرقت يوم‏21‏ أغسطس الحالي من عندنا‏.‏
ويقول الخبراء إن سرقة اللوحات ليست مستحيلة برغم كل إجراءات الأمن الإلكترونية والحراسة الآدمية‏,‏ لكن الصعوبة هي في محاولة بيعها‏,‏ ففي حالة متحف الفن الحديث بباريس تمكن اللصوص من الوصول إلي النافذة الوحيدة في المبني التي لم يكن عليها جهاز إنذار وتمت السرقة في اللحظات الفارقة ما بين تغيير دورتي حراسة‏.‏
أما قصة تحويل منزل محمد محمود خليل وحرمه إلي متحف فهي الأخري يكتنفها الكثير من المغالطات التاريخية‏,‏ حيث لم يرد في وصية صاحب البيت أي شيء حول التبرع به للدولة ولا تحويله إلي متحف‏,‏ والذي حدث هو أن محمد محمود خليل بك‏(1877‏ 1953)‏ وهب القصر الواقع في الجيزة والمبني علي طراز معماري يجمع بين‏(‏ النيوكلاسيك‏)‏ و‏(‏ الآر نوفوه‏)‏ إلي زوجته الفرنسية إميليين هكتور لوس بما يحتويه من أثاث ومن أعمال فنية‏,‏ وذلك بعقد رسمي مسجل في‏19‏ ديسمبر‏1947,‏ أي قبل وفاته بست سنوات‏.‏
وكان هذا التصرف في ملكية القصر الكائن برقم‏1‏ شارع كافور البالغة مساحته نحو‏8‏ آلاف متر هو التصرف الرابع في ملكية القصر‏,‏ فقد بناه في بداية القرن العشرين أحد أفراد عائلة سوارس اليهودية‏,‏ وهي غير عائلة ساويروس المصرية‏,‏ وكان لصاحبه نشاط كبير في مجال البنوك والأعمال لكنه لم يرزق بأطفال فانتقلت ملكية القصر حسب وصية صاحبه روفائيل مناحم سوارس إلي ابنة زوجته بعد وفاته عام‏1909‏ ثم بيع القصر إلي أحد أفراد العائلة المالكة عام‏1925‏ إلي أن اشتراه في الأربعينيات سعادة محمد محمود خليل بك ليهبه بعد وفاته عام‏1953‏ إلي زوجته الفرنسية وليس للدولة‏.‏
لكن ما إن توفي محمد محمود خليل وزير الزراعة السابق ورئيس مجلس الشيوخ والوفدي الكبير حتي اكتنف الصراع كل تركته التي كانت تقدر بالملايين‏.‏
كان أطراف هذا الصراع الذي ذاع آنذاك في الصحف والمجلات ثلاثة‏:‏ أولا الزوجة الفرنسية التي آل إليها القصر بما فيه‏,‏ ثانيا السيدة سعاد راشد إحدي سيدات المجتمع التي تزوجها محمد محمود خليل لفترة قصيرة علي زوجته الفرنسية وأنجب منها ابنا واحدا هو عمرو ثم طلقها‏,‏ وثالثا الدكتور خليل عزمي ابن عم محمد محمود خليل الذي دفع بأنه وريث شرعي وأن المتوفي لم يكن له أبناء‏,‏ فكيف حدث كل ذلك؟
لقد شككت سعاد راشد التي كانت ظروف زواجها من محمد محمود خليل في أوائل الأربعينيات يشوبها الكثير من الغموض‏,‏ في عقد الهبة الذي آل به القصر إلي الزوجة الفرنسية‏,‏ وذلك علي أساس أنه نص علي أنه في حالة وفاة الزوجة الفرنسية في أثناء حياته لا يرث القصر عنها أقاربها الفرنسيون‏,‏ وإنما يعود إلي صاحبه الأول محمد محمود خليل‏,‏ وهذا يعني انتفاء صفة الملكية الكاملة للزوجة الفرنسية‏,‏ ومن ثم يعتبر القصر إرثا ضمن تركة محمد محمود خليل‏,‏ ويرثه ابنه الوحيد من سعاد راشد والبالغ آنذاك تسع سنوات‏.‏
ثم تدخل فجأة الدكتور خليل عزمي في الدعوي القضائية التي كانت قائمة بين الزوجتين معلنا في المحكمة أن محمد محمود خليل كان قد بعث لوالد خليل عزمي بخطاب من باريس قال فيه إنه سيجري عملية جراحية هناك وأنها ستتسبب في منعه من الإنجاب وأنه بذلك يستحق ثلاثة أرباع التركة لأن عمرو خليل بذلك لا يكون ابن مورثه‏.‏
لكن خليل عزمي توفي في أثناء نظر القضية في مارس‏1958‏ دون أن يقدم الخطاب المذكور مما أفاد دعوي سعاد راشد التي أثبتت أن محمد محمود خليل نفسه لم ينكر أبوته لعمرو وأنه كان يصرف لها نفقة شهرية للإنفاق عليه قدرها خمسون جنيها في ذلك الوقت‏,‏ أي ما قد يساوي خمسة آلاف جنيه الآن‏,‏ وأن الابن ظل يحمل اسم أبيه منذ مولده‏.‏ وبعد سنتين من وفاة الدكتور خليل عزمي وفي شهر مارس نفسه توفيت إميليين هكتور لوس الزوجة الفرنسية لمحمد محمود خليل عن‏84‏ عاما في أثناء نظر القضية‏,‏ وما إن انتهت مراسم جنازة الزوجة الفرنسية التي كانت قد أشهرت إسلامها قبل ذلك بسنوات ودفنت في القبر الذي بناه زوجها بالإمام الشافعي حتي وقف محاميها الأستاذ حسن الإبراشي يقرأ أمام الورثة المشدوهين ومندوبي بيت المال الذين جاءوا لتحصيل الضرائب علي القصر تفاصيل وصية موكلته‏,‏ مؤكدا أنه ليست هناك تركة للورثة‏,‏ وبالتالي ليست هناك ضرائب تحصل عليها لأن المتوفاة أوصت بالقصر وجميع محتوياته من لوحات وتحف وأثاث إلي الدولة ليتحول إلي متحف
وأورد حسن الإبراشي نص الوصية التي قالت‏:‏ ويهمني هنا أن أوضح أنني قد أردت بهذه الوصية أن أعبر عما أشعر به في الصميم من حب لمصر التي صارت لي وطنا منذ زواجي بالمرحوم محمد محمود خليل‏,‏ وأني أذكر ما أحاطني به من عطف وما شملني به من عناية كزوج مخلص بادلني حبا بحب‏,‏ ولقد رأيت من حقه علي أن أخلد ذكراه في نفوس مواطنيه كجندي من أبر جنود مصر الأوفياء‏,‏ ومن أجل ذلك فإنني أقرن وصيتي بشرط أقتضيه من الحكومة‏,‏ وهو أن يجعل من المنزل والتحف الذي يضمه متحفا باسم محمد محمود خليل وحرمه علي أن يفتح هذا المتحف للجمهور‏,‏ وإذا رأي أن توضع تعريفة دخول فلتكن زهيدة بحيث يكون الدخول ميسورا للجميع‏.‏ وحتي ذلك الحين لم يكن القضاء قد بت في موضوع الهبة التي آل القصر بمقتضاها إلي السيدة إميليين لوس‏,‏ فاعترضت سعاد راشد علي تنفيذ الوصية وفرضت المحكمة الحراسة علي القصر وصدر حكم بتعيين وزير الثقافة آنذاك الدكتور ثروت عكاشة حارسا علي القصر إلي أن تصدر المحكمة حكمها في القضية‏.‏
وتوجه الأستاذ حسن الإبراشي المحامي إلي القصر الجمهوري بالقبة يوم‏26‏ مارس‏1960‏ وكتب في دفتر التشريفات كلمة رجا فيها أن تنال هدية موكلته الموصية للدولة حسن القبول‏,‏ فأفتي مجلس الدولة للمحكمة بصحة عقد الهبة وتحول القصر إلي متحف محمد محمود خليل وحرمه‏,‏ حسب وصية الزوجة الفرنسية التي أحبت مصر أو كرهت الزوجة المصرية وليس بوصية صاحب القصر‏,‏ وكانت تعريفة الدخول آنذاك خمسة قروش التزاما بوصية الواهبة‏.‏
لكن ما لم تلتزم به الدولة في وصية السيدة إميليين هكتور لوس هو أنها لم تبق علي القصر كمتحف‏.‏
ففي عهد الرئيس أنور السادات تم نقل جميع محتويات القصر إلي قصر الأمير عمرو إبراهيم أمام نادي الجزيرة بالزمالك وألحق القصر بمنزل الرئيس في الجيزة بعد أن تم عمل نفق أرضي يوصل بينهما وذلك بالمخالفة لشروط وصية حرم محمد محمود خليل التي وهبت القصر للدولة بشرط أن يتحول إلي متحف وليس إلي مكاتب لموظفي رئاسة الجمهورية‏.‏
وأذكر أنني في ذلك الوقت نبهت عمرو ابن محمد محمود خليل وهو زميل دراسة بمدرسة فيكتوريا كولدج إلي تلك المخالفة وقلت له إنه الوحيد الذي يستطيع أن يعارض هذا القرار‏,‏ لكن المحامين الذين تم استشارتهم آنذاك أفتوا بأن الهبة لم تكن من مورث عمرو خليل وإنما من زوجته الفرنسية التي لا تمت لعمرو بصلة‏,‏ وبذلك فهو يعتبر قانونا غير ذي صفة‏,‏ وهكذا استمر القصر ملحقا بالرئاسة دون اعتراض من أحد طوال فترة حكم السادات‏.‏
لكن بعد رحيل الرئيس السادات تم استعادة القصر من رئاسة الجمهورية بقرار من الرئيس مبارك وأعيدت إليه محتوياته من الأعمال الفنية والأثاثات‏,‏ وخضع القصر في عهد الوزير فاروق حسني إلي عملية ترميم شاملة أعيد بعدها افتتاحه مرة أخري للجمهور كمتحف حسب وصية واهبته‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.