تسمح الأهرام بسقف عال من الحرية لمناقشة قضايا الوطن قبل أن تتخاطفها صحافة غير مسئولة أو نتاجر بها فضائية حاقدة أو معارضة هشة. وليست سرقة اللوحة الثمينة هي القضية بقدر ما هي سرقة الانتباه, إحدي علامات التقدم والازدهار في الأوطان المتقدمة, فالانتباه صار مؤجلا وللدقة أصبح بطيئا وربما انعدم تماما. وقد استبدل الانتباه بالبلاهة التي صارت سمة في واقعنا. كنت أسمع يوما من الفنان المفكر حسن فؤاد اننا شعب( مغمي عليه) ولم أكن التفت لهذا المعني واعتبره ملحوظة يسارية من كاتب يساري. لكني أدركت عمقها حين حملت السنين فوق ظهري وأرقب ما يجري علي ضفاف نيلنا. من غير المعقول ان نلغي عقولنا ونمحو تجاربنا ونسقط في( اغماءه قومية) نفقد فيها الانتباه. مثلا, لو كنا منتبهين الي ما يدخل بلادنا وتحكمنا يقظة شديدة, لما دخلت مصر مواد مسرطنة, مثلا, لو لم تتقاعس جهات الانقاذ عن انقاذ عبارة السلام98 لصار عدد الغرقي ضئيلا وليس بألف انسان! مثلا, لو كان هناك اشراف دوري صحيح وليس( تستيف أوراق) لما عاشت مصر محرقة بني سويف الشهيرة في مسرح! مثلا, لو كانت هناك عين تراقب الشاطيء في المنيا لما غرق الي قاع النهر المركب الشراعي بالبنات! مثلا, لو كان التسلسل الوظيفي في السكة الحديد واضح المعالم لأمكن تطويق كوارث القطارات التي تفاجئنا من حين الي حين! مثلا, لو كان رئيس الحي في الشارع( يطوف ويشوف), لما سقطت بيوت آيلة للسقوط فوق أصحابها! مثلا, لو كانت أجراس الانذار بكفاءة وكاميرات المراقبة تعمل داخل المتحف المنهوب, لما جرت سرقة لوحة زهرة الخشخاش, وتعالوا نتأمل كلمات الوزير المسئول فاروق حسني: أتحمل أخطاء موظفين عديمي المسئولية وهذا انتحار يومي, ويقترح وزير الثقافة ان يتولي( الأمن القومي) تأمين المتاحف بغرفة تحكم مركزية. انه بعد الاطلاع علي الملابسات يعد ما جري اهمالا قوميا وغفلة, فقد ذهب النائب العام بنفسه وجرب أجهزة الانذار واكتشف انها عاطلة. وجرب الكاميرات فثبت له أن36 كاميرا مراقبة, عاطلة. الحادث( الفضيحة) يكشف عن منظومة التراخي والترهل الاداري في واقعنا. وأبسط دليل هو لجوء وزير الثقافة الي الامن القومي ليدير المتاحف فيضمن تأمينها لأنها القوات المسلحة المصرية. ولست أطالب( بعسكرة) بعض أجهزة الدولة المهمة ولكني أضع أمام العيون نموذجا للضبط والربط. انه بيت القصيد في الأمر الذي يجعل محافظ الأقصر مثلا يلجأ للقوات المسلحة في معظم مشاريع المحافظة, فيضمن المتابعة والتوقيت وهما أساس الضبط والربط. ان علم الادارة ولد في أحضان العسكرية. والمشكلة في بعض أجهزة الدولة المدنية تكمن في تمييع المسئولية. فالمسئوليات غير محددة وهلامية وماشية بالبركة والادارة الوسطية حائرة بين ارضاء الكبار وعدم الوصول للصغار, وأوجه القصور لاتكتشف الا عند حدوث الكارثة, ورؤساء القطاعات يصرخون دائما( طالبنا بالتطوير والرؤساء لا يسمعون)! لست أركز علي حادث سرقة اللوحة الثمينة من متحف محمود خليل رغم أهميته قوميا وأمنيا ولكني أحاول الوصول الي أسباب غياب الضبط والربط وغياب الانتباه وفساد المنظومة الادارية: فهل مازالت تحكمنا نظرية( كله تمام ياافندم)؟ الاجابة: نعم. هل أدت النظرية الي( نكسات ادارية)؟ الاجابة: نعم. هل في كل حادث صارخ لابد من كبش فداء أمام الرأي العام؟ الاجابة: نعم. هل القيادات العليا اداريا تتحمل جزءا من المسئولية؟ الاجابة: نعم. هل الاقوال المرسلة لا يعتد بها عند التحقيقات؟ الاجابة: نعم فالأوراق الرسمية بالصادر والوارد تضع النقط فوق الحروف. هل من مهام قائد الموقع ان يكون علي دراية بجميع تفاصيل الموقع الذي يديره؟ الاجابة: نعم. هل( التنبؤ بالاحتمالات) في فكر المسئول عن جهاز ما؟ الاجابة: لا. هل تراشق الاتهامات بين مسئولي الجهاز الاداري حين تقع البقرة وارد؟ الاجابة: نعم. هل طمأنينة المسئول في مصر ناتجة عن معلومة من أصغر موظف تصل اليه بالاستريو تايب؟ الاجابة: نعم. هل يتفقد المسئول بنفسه خريطة موقعه؟ الاجابة: لا. هل يقدم المسئول الكبير استقالته عند اكتشاف خلل غائر في جهازه الاداري؟ الاجابة: لا. هل الادارة في مصر بالعشم والفهلوة؟ الاجابة: نعم. هل في بلدنا من يعمل يتساوي مع المهمل؟ الاجابة: نعم. هل الاختصاصات في العمل ينقصها دقة التوصيف؟ الاجابة: نعم. هل دعوة الضمائر للصحوة في الاداء دعوة رومانسية؟ الاجابة: نعم. ولا أظن بعد هذه التساؤلات.. أن نستعين بخبرات أجنبية لإدارة مرافقنا الحيوية في السكة الحديد أو الاحياء في الحكم المحلي أو متاحف وزارة الثقافة. الأمر يحتاج لوقفة وإن لم يعد هناك سوي الوقفات الاحتجاجية من أجل الغلاء أو رغيف عيش أو أنبوبة بوتاجاز. وأظن أنه من الخيال أن أطالب بسفر الجهاز الاداري في مصر الي المانيا من أجل دوره في الجدية. ربما, يعود منهاهذا الجهاز وقد اتقن مفردات الجدية الالمانية مثل التدقيق ونبذ اللهوجة والمسئوليات المحددة والابلاغ الفوري عن الخلل والمتابعة الدائمة والاحتمالات القائمة والتقييم المستمر للعنصر البشري وإحاطة الرؤساء أولا بأول بالصورة دون زيادة أو نقصان والتعامل مع الزمن وكيفية ادارة المستقبل بكل مفاجآته. لهذا أري أن الإهمال حصري في الواقع المصري. وعلاج الاهمال ليس بالعقاب ولا بالفصل من الخدمة ولا بخصم كبير من المرتب. فما آلت اليه الشخصية المصرية يحتاج لنظرة تضم الواقع المحيط الي الملف. فالسعار للتربح داس علي القيم وصار الاهمال سلوكا طبيعيا والالتزام شذوذا. لا أملك حلا سحريا فقط أحلم بتعظم دور الفرد, فاليد.. صانعة الحضارة.