أنا مهندس في النصف الثاني من العقد السادس, ومنذ أن تخرجت في كلية الهندسة عملت بالقطاع العام, ثم كان لي شرف الخدمة العسكرية ضابطا بالقوات المسلحة في حرب أكتوبر1973 المجيدة. ومع بداية مفاوضات السلام عدت لعملي بالقطاع العام وتدرجت في الترقيات حتي درجة رئيس قطاعات هندسية. وألتزم بأداء الفرائض الدينية في حينها, وأراعي الله سبحانه وتعالي في كل تصرفاتي مع المواظبة اليومية والمستديمة علي تلاوة ما تيسر من القرآن الكريم. وتزوجت منذ أكثر من37 عاما زواجا تقليديا من إحدي بنات القرية التي نشأت بها, ولم تكمل تعليمها ولاتعمل, ورزقني الله منها بولدين ألحقتهما بمدرسة لغات خاصة قريبة جدا من محل إقامتي, واستمرا بها من الحضانة حتي الثانوية العامة, ثم انتقلا إلي الجامعة وتخرجا فيها وشغلا وظائف مرموقة بالجامعة نفسها, ابني الأكبر(33 سنة) يعمل مدرسا مساعدا بإحدي كليات القمة, وابني الأصغر(29 سنة) يعمل معيدا في كلية قمة أخري. وبعد أن اطمأننت عليهما أديت فريضة الحج بمفردي, فلقد طلبت من زوجتي أن ترافقني فاعتذرت, كما طلبت من ابني مرافقتي فرفضا تماما هما الآخران. وعندما عدت من الأراضي المقدسة طلب مني الولدان ومعهما والدتهما أن أساعدهما في شراء شقة لكل منهما ليتزوجا فيهما, وكنت قد ادخرت للزمن مبلغا ماليا بالإضافة إلي مبلغ آخر ثمن بيع قطعة أرض ميراث وأعطيتهما تحويشة العمر بنفس راضية, وكنت مطمئنا لتصرفاتهما, وفعلا أخذا شقتين بمدينة نصر ومصر الجديدة بعيدا عن محل إقامتنا حاليا, وأخذت زوجتي شقة ثالثة لكي تكون قريبة منهما وتصبح مركزا للثلاثة معا!! وأخبرني ابني الأصغر أنه معجب بإحدي الطالبات بالسنة النهائية بالكلية التي يعمل بها معيدا, وأنه تفاهم معها علي الزواج وتقابل مع والدها ورحب به وطلب مني الذهاب معه لطلب يدها حسب العرف, وناقشته في اختياره وأمام إصراره وافقته علي طلبه وتمت الخطبة. وبعد أشهر قليلة تكرر السيناريو مع شقيقه الأكبر والشقيقة الصغري لخطيبة أخيه وهي طالبة مع شقيقتها بالكلية التي يعمل بها الابن الأصغر وتمت الخطبة, وأقمنا حفل زفاف الابن الأصغر في يناير2009 بفندق5 نجوم. وبعد الزفاف بأسبوع وبدون سبب أو مقدمة فاجأني الابن الأكبر بأنه سيقيم مع والدته بالسكن الجديد بمصر الجديدة لحين أن يتزوج هو الآخر في شقته الجاري تشطيبها, وقال لي: عليك( يقصدني أنا) أن تدبر أمورك لأنك ستعيش وحدك هنا ولن نأخذك معنا بالسكن الجديد. صدمت من كلامه ودارت بي الأرض ولم أتمالك نفسي ولم أصدق ما يواجهني به ابني الأكبر, فمن المفروض أنني أصبحت في هذه السن المتقدمة مسئولا منه, لكنني وجدت أمامي وحشا كاسرا متحجر القلب, وليس ابنا بارا بوالده الذي أفني عمره في تربيته ورعايته حتي أصبح طبيبا ذا شأن فلم يعبأ بتوسلاتي إليه بأن ظروفي الصحية صعبة, حيث أعاني بعض الأمراض المزمنة مثل الضغط والكلي.. إلخ, وهو علي علم بها, وكذلك تقدمي في السن, فجميع الظروف لاتسمح بإقامتي وحيدا, بالإضافة إلي أن العمارة التي أسكن بها وكنا نقيم فيها جميعا حتي يناير2009 بصفة دائمة أصبحت بدون بواب لمتابعتي, وهذا حرام. نعم توسلت إليه وأنا أبكي أمامه ألا يتركوني وحدي, فرفض كل توسلاتي وأسمعني ما أكره, وانهرت أمامه وتمنيت من الله سبحانه لو لم يمتد بي العمر لهذه اللحظة لكان أفضل, ولم يشفع لي ذلك عنده وتركني وانطلق بسيارته إلي سكنه الجديد حتي قبل أن أتمالك نفسي من هذه الصدمة التي حطمتني تماما, ومازلت غير قادر علي استيعابها, والتي انعكست علي صحتي سلبا, ومع ذلك حاولت الاتصال به وبشقيقه لمتابعتي ولو تليفونيا لكن دون فائدة. وجميع من حولنا من الأقارب رفضوا التوسط وبشماتة, بحجة أنه لا أحد يتدخل بين أب وأبنائه, وجميعهم يبحثون عن المكسب من هذه المصيبة التي ألمت بي وبأي طريقة وبأي نوع من هذه المكاسب ولا داعي لذكرها لأنها خسيسة ووضيعة وحقيرة. إنني أتحدث إلي نفسي كثيرا بين جدران الشقة الخالية, وأحتسب ما قدمته لأولادي عنده عز وجل, وأردد دائما قول الله تعالي: إنا لله وإنا إليه راجعون, وما يشغلني الآن هو أنني سأموت وحيدا وقد لا أجد من يعلم بوفاتي ويواريني التراب, لذلك اخترتك أن تتولي هذه المسئولية فترشح لي جمعية خيرية أو أحد أهل الخير المشهود لهم بالأمانة والصدق لمتابعتي ولو تليفونيا علي حسابي الخاص, وأرتب معه في حالة وفاتي أن ينقلني للدفن ببلدتي بإحدي محافظات شرق الدلتا القريبة من القاهرة, وتقدير التكلفة المادية المناسبة لعملية الدفن فأودعها لديه, أسأل الله العفو والمغفرة, وأن يرضي عني فألقاه خاليا من الذنوب والمعاصي, وأدعوه أن يجزيكم خير الجزاء. * والله ياسيدي لا أجد ما أعلق به علي رسالتك الحزينة والمؤثرة التي تبكي كل من يقرؤها, فليس معقولا أبدا أن الشجرة الوارفة التي ألقت بظلالها علي الجميع وأكل من ثمارها كل من اقترب منها أن يتخلي عنها الجميع, فلا يرووها أو يهتموا بها ويتركوها للهلاك في أي لحظة. لقد بحثت عن سبب واحد دفع ابنيك وزوجتك إلي هذا الجحود والنكران, فلم أجد, كل ما طلبوه لبيته لهم, ووفرت لهم حياة كريمة, وصار لكل منهم شأن عظيم, أفتكون هذه هي الجائزة التي يقدمونها إليك وأنت في خريف العمر؟ لتعلم زوجتك وليعلم ابناك أنهم جميعا سوف يلقون مصيرا مؤلما إذا استمروا في موقفهم منك, فالله سبحانه وتعالي يمهل ولا يهمل. ودعني أقول لك إن الرجل الذي واجه شدائد الحياة وهو واقف علي قدميه ولم يتزعزع إيمانه بالله, قادر علي مواصلة المسيرة بنفس القوة والقدرة والإيمان, ولاتحزن فنحن جميعا أهلك, ويسعدني أن أكون ابنا أو أخا لك, ويسعد كل أصدقائنا أن يكونوا عونا لك, وسوف أزورك هذا الأسبوع وستتواصل لقاءاتنا, وستجد كل تقدير وحب وتعاون من الجميع.. وإلي اللقاء.