قلة هم الأدباء الذين يتحققون من خارج القاهرة فالعاصمة الهائلة تعيد صياغة كل من يقيم فيها وتضيف إليه بلا توقف. لكن عادل عصمت حين سكنها لم يجد طريقا مفتوحة إلي قلبها فعاد إلي طنطا. واشتري سيارة أجرة ليعمل عليها إلي أن يتسلم وظيفته. وتزوج حبيبته, وأنجب ولدا وبنتا, وثلاث روايات مدهشة ومن هناك تسلل أدبه إلي مسارب القاهرة, وندواتها المستعصية علي الانهيار. وتبدت خبرته بالواقع أكبر من سنه, فمن يقرؤه يظنه من جيل الستينيات, وهو تسعيني, لكن جرح النكسة مازال ينزف في أعماله وتشف رواياته عن هموم الناس, وكوامن قلب الإنسان, مماجعل لغته تقطر حزنا عذبا وأسي حانيا, يجلوان الوعي, ويعليان شأن الإبداع. في كتابك ناس وأماكن المكتوب بنفس روائي, قلت إن الشارع أصبح مكانا صاخبا, وتبدل من وسيط مؤقت بين ثابتين هما البيت والعمل إلي مكان لمزاولة الأنشطة, فانتقلت الحياة إلي السوق والشارع, مما يعني أن فكرة الوطن القائمة علي البيت بطريقها إلي الزوال, فهل نحن بصدد مستقبل أكثر خطورة علي قيمنا ؟ المقصود هو الخفة التي راحت الحياة تتحول إليها. الشقق التي سيسكنها أغلب الشباب إيجار مؤقت, يبنون بيوتا في شقق مؤقتة, يمكن للحياة العائلية أن تنتهي في أي لحظة. الزواج يمكن أن يكون أيضا من زاوية ما مؤقتا ألا يغير هذا من الحس بالشارع والمدينة والوطن ؟ الحياة لم يعد لها رسوخ البيوت القديمة التي تحولت من بيت عائلة كبير, مملوك لأصحابه, إلي شقق دائمة الإيجار ثم إلي شقق مؤقتة, انظر إلي من يعودون من الخليج طوال الاعوام الثلاثين الأخيرة, كلهم يبنون بيوتا أو يشترون شققا, الآن فكرة البيت عند شعب عاش عمره علي ضفتي النهر تهتز. من وجهة نظر البعض قد يكون هذا مفيدا يشير إلي مستقبل فيه حس بالحركة أكثر من حالة الاستقرار التي تخلف الركود, لكني أري أن الوطن سيتحول إلي فكرة خيالية بعد أن كان متجسدا. وفي الكتاب أيضا رأيت أن الشباب الآن يتحركون في عالم بالغ الهشاشة, ربما بسبب تغيره المتسارع. وبات المعيار الحالي للزمن هو تغير الموديلات, وهذا التناقض بين هشاشة اللحظة وأبدية الأوضاع الاجتماعية يدفعهم إلي الموت بأكثر الطرق جنونا مثل المخدرات وسباق السيارات والعراك العنيف, فهل ثمة أسباب أكثر عمقا مما نري لإحساس الشباب بالضياع ؟ لا أعرف سببا أكثر جوهرية من الإحساس بالحبس( الجسدي والمعنوي) لكي يفقد الإنسان رغبته في العيش, ويبحث عن أشكال مزيفة من الحياة, كتلك التي ذكرتها. أن تعيش محبوسا يعني أن يتكرر يومك بلا نهاية, أن تفقد فكرة الزمن حيويتها بالنسبة لك, والغد يصبح هو الأمس. رواياتك هاجس موت و حياة مستقرة و أيام النوافد الزرقاء, وحتي كتاب ناس وأماكن مسكونة بحزن مقطر علي الراحلين من البشر, والأسي علي أشياء وأمكنة قديمة, في مواجهة وحشة الحاضر, فهل الأدب محض نظرات إلي الخلف ؟ أليس للاستشراف متسع في الأدب ؟ لماذا يتمعن إبداعك في الماضي وحسب ويتحاشي الحاضر ؟ طول الوقت أجد صعوبة في فهم فكرة الحاضر, كيف يمكن فهم تلك اللحظة التي تتحول بمجرد وجودها إلي ماض, وذلك الترقب الذي يطلقون عليه المستقبل لا يتحقق أبدا. إنه يجري أمامنا طول الوقت, باختصار فكرة الزمن غامضة بالنسبة لي, وأظن أن لحظات من حياتنا الشخصية أو الاجتماعية لا تموت أبدا, هل مات5 يونيو1967, هل ماتت نكبة1948 ؟, الأدب عندي ليس تطلعا إلي الماضي ولا استشرافا للمستقبل, إنما تأمل لمشكلات القلب الإنساني في تحولاته وصراعاته, وهنا فكرة الزمن تغيب قليلا, لا يهم إن كان هذا يحدث حاليا أو في زمن سابق, ومن الطبيعي أن يحزن المرء لفراق أماكن تحمل أجزاء من حياته أو أشخاص كانوا ينيرون الحياة, الذاكرة مهمة في حياة دائمة التبدل, والسؤال هل يتحول هذا إلي رثاء أو بكاء علي الأطلال ؟ يجب علي المرء أن يكون واعيا حين يتأمل اللحظة الحالية بأنه لا ينعي ما فات, بل يتتبع تاريخ الحاضر. من المهم أن نعرف كيف تشكل ما نعيشه في الزمن الراهن حتي نستطيع تصور الأمر بعد ذلك. من لا يعرفك يظنك من جيل الستينيات الذي يعاني نزيف جرح النكسة إلي الآن, ف حياة مستقرة و أيام النوافذ الزرقاء تراوحان بين وطأة الهزيمة وخيبة النصرفهل يمكن للمبدع استعارة أحزان زمن سابق عليه؟. لايمكن للكاتب أن يستعير أحزان الآخرين, سيكون الأمر مزيفا, ولكن إذا صح كلامك فيما يخص التشابه الذي ذكرته. أليس من المحتمل أن تكون هذه الأحزان مازالت قائمة, وأننا نعيش نفس اللحظة, وإن غفل البعض عنها ؟ إذا افترضنا صدق الكاتب. كراهية الجدة للون النوافذ الزرقاء يعكس حزنها علي ابنها الشهيد, ورفضا للغموض المقبض الذي أحاط بالأسرة والمجتمع, فالأزرق يحرمهم الضوء والرؤية الطبيعية, ومازلنا للآن نعاني ضبابية تمنع رؤية الأشياء بوضوح كامل فهل تظن أن الذين دهنوا نوافذنا باللون الأزرق في الماضي هم الذين أغرقونا في عتمة الحاضر ؟ المسئولية من الأفكار التي أعتني بها, فحياتنا في اللحظة الحالية تغص بالنقد والاتهام, ومن يوجه الاتهام يجلس في مكان أعلي قليلا من المتهم, إنه بريء من التهمة. فإن كنا الآن نعاني من ضبابية الرؤية فهي مسئوليتنا, علينا أن نحاول استجلاء الفهم, وهم أيضا في زمنهم, ربما ما حدث لهم بسبب تقصيرهم في فهم ما يحدث حولهم. فكرة المسئولية مهمة, في الوقت الحالي. محمود في رواية أيام النوافذ الزرقاء يلقي بمسئولية خراب البيت علي أخيه الذي رحل إلي ألمانيا وينسي أنه نفسه من خرب حياته.