مازالت ضحكات هذا العالم الكبير والجليل تمر بالذاكرة كنسمة هواء طيبة تطفئ من حرارةاغسطس لبعض الوقت ومازالت كلماته عن الخرافة وكيف تقوم بتجميد العقل وتحول البشر الي كائنات سابحة في فضاء الحيرة وعدم القدرة علي السير الي المستقبل, مازالت تلك الكلمات تملأ الوجدان لتذكرني بما قاله لي مبتسما وهو يودعني كي يسافر الي فيينا لقضاء اجازة صيف2006, قال لي: حياة كل إنسان تضع في يده مفتاحا واحدا إما ان يفتح به ابواب الجنة او ابواب النار. وكانت اسرائيل في ذلك الصيف تدك لبنان بأجمعه, نتيجة صراعها مع ايران التي جعلت من بعض اهل لبنان قفازا ترتديه وهي تخوض رحلتها للسيطرة علي اقدار الخليج, وبطبيعة الحال فرح البعض بمشاهد سقوط بعض من قذائف الصواريخ علي بعض من مدن اسرائيل, لكن السيد حسن نصر لله قالها بوضوح الكلمات انه لو كان يعلم ان نتيجة تلك الحرب هي هذا القدر من الدمار لما بدأها اصلا. وكأنه بكلماته تلك يحاول تجفيف الدموع علي مشاهد الاطفال المقتولين بأيدي العنصرية الاسرائيلية ويكفيني بشكل شخصي اني فقدت صديقا نادر الوجود هو احمد مستجير الذي لم يتحمل مشاهد قتل الاطفال فسقط رأسه بانفجار شرايين المخ, حين كان يتناول غداءه وأمامه نشرات اخبار القتل الرهيب علي شاشة التليفزيون في بيت ريفي لاسرة زوجته النمساوية الميلاد, وهو البيت الواقع اعلي جبال الالب, ولكن مشاهد التدمير والقتل كانت هي الوجبة المتاحة في ذلك الصيف لعيون جميع سكان كوكب الارض ولم يتحمل مخ احمد مستجير الغاء العقل الذي يوازن بين استخدام القوة من اجل صيانة الحياة, وبين الرضوخ الي اوامر القادة المحترفين لصناعة الموت. وظلت صورة احمد مستجير في رأسي حين حدثني عن المفتاح الواحد الذي يوجد بيد كل انسان ليفتح به ابواب الجنة او ابواب الجحيم. وحين حدثته متسائلا: كيف يكون هناك مفتاح واحد لنقيضين, هما الجنة والنار ؟ اجاب: لك ان تتخيل مشهد اجدادنا الاقدمين حين توهموا ان الارض محمولة علي ظهر فيل يقف فوق سلحفاة تسبح في بحر بلا قاع. وهذه فكرة شاعرية جميلة. ونفس العقل الذي استسلم لهذا الخيال, هو العقل الذي قام بالشك في تلك الحكاية وراح يكتشف كروية الارض والجاذبية الارضية, وكيف استطاعت تلك الجاذبية ان تحفظ للارض دورانها حول الشمس, وهذه الجاذبية ايضا هي التي تحفظ توازن المسافات بين الارض وبقية الاجرام الاخري من شمس وقمر ونجوم. واضاف احمد مستجير عالم الوراثة والعاشق للترجمة وأول من بدأ زراعة القمح والأرز بالمياه المالحة, أضاف هذا العالم: كل هذا التقدم نبع من تزاوج تلسكوب جاليلو مع سقوط التفاحة علي رأس نيوتن, ثم اجتمعت كل من الجاذبية مع مراقبة حركة النجوم مع قانون الطفو لأرشميدس كي يتوصل البشر الي مزيد من الفهم لهذا الكون الذي يعيشون فيه. وفي هذا اللقاء الأخير اهداني احمد مستجير كتابا قام بترجمته بعنوان معني هذا كله وهو يضم ثلاث محاضرات لعالم امريكي هو ريتشارد فينمان الذي شارك في أبحاث صناعة القنبلة الذرية, وحصل علي جائزة نوبل في عام1965, وهو من رأي ضرورة دراسة العلم كأساس جوهري لتقدم الحياة علي الارض, فالعلم هو ضوء الواقع والمستقبل وهو الذي يمتد امام البشرية كنهر من ثلاثة افرع, فرعه الاول هو الايمان بأن الحياة هي مغامرة هائلة تفحص كل خيال بعيون الشك, وتخضع الخيال للتجربة, وهنا يأتي الفرع الثاني للعلم والذي يكتشف الحياة الداخلية بقوانينها في كل شيء, ومازال يواصل تلك الرحلة التي بدأت من معرفة ان اصل كل الكائنات هو ذرات تتكون منها النجوم كما يتكون منها الانسان, ثم الفرع الثالث من العلم والذي يحول ماتوصل اليه الي اكتشافات عملية تطور حياة الانسان, وهو ما يسمي بالتطبيق التكنولوجي. ومازلت اذكر شغف احمد مستجير بأفكار هذا الكتاب, بعد ان قرأه في ليلة واحدة وفي صباح اليوم التالي بدأ ترجمته, لان ما به من افكار يناقش ضرورة عدم تسليم العقل والوجدان لاية افكار مسبقة تجمد الفهم والشك والبحث عن الفهم المتطور, سواء أكانت تلك الافكار هي الطاعة المطلقة للولي الفقيه المنتظر لمجئ المهدي المنتظر, او كانت تلك الافكار هي علو الاسرائيلي علي غيره من البشر, بتلك العنصرية التي تمنع اصحاب العقيدة الاسرائيلية من الايمان بأن غيرهم هم بشر مثلهم, فمثل هذا التسليم هو بمثابة عودة الي الايمان بتلك الخرافة القديمة القائلة بان الارض محمولة علي ظهر فيل يقف علي ظهر سلحفاة تسبح في بحر لانهاية له. ونقيض ذلك طبعا هو التساؤل والشك, وإعادة استكشاف حقائق علمية رصينة ما ان توضع بجانب بعضها ويتم توظيفها من اجل الوصول الي حقائق جديدة, فهذا هو الطريق الذي يضمن للانسان ان يكون انسانا مسيطرا علي فهم الكون الذي يعيش فيه ومحاولا صناعة التقدم بخطوات تملك طاقة الصبر علي التساؤل وعلي اقتحام سبل التطبيق للعلم فتتطور الحياة. لا أنسي ضحكة مستجير وهو يقول لي طبعا هناك من يندهش حين يعلم ان الارض التي تدور حول الشمس يمكنها ان تشبه سيخ الكباب, تعطي نصفها للشمس نصف الوقت, لتسلم النصف الثاني لحرارتها بعد قضاء الليل. وقد ينسي ان الشمس لن تشوي الارض, فالجاذبية المتواجدة بين الكواكب هي التي تمنع ذلك, وعلينا الا نهمل البحث عن اسرار تلك الجاذبية التي لم تكشف كل اسرارها, تماما كما لم تكشف اي مقطوعة موسيقية عن كل جمالها, بل تتوالي الاجيال لكشف المزيد من الجمال في الموسيقي. غادرنا احمد مستجير وهو يلعن إلغاء العقل في اي جمود او احاطة القلب بأسوار الولاء الارعن لقادة التعصب. ومازالت ذكراه علي مر السنوات تعزف في الوجدان موسيقي الشك الباحث عن مزيد من يقين علي اسس من علم يخدم البشر ويطور حياتهم, مثلما بحث عن زراعة القمح والأرز والذرة بماء البحر المزيد من مقالات منير عامر