من القامات التي لاتصغر في الخيال أبدا قامة الكاتب احمد بهاء الدين, او الاستاذ بهاءكما يعرفه كل من احبوه ونالوا شرف التعلم منه, فلم يكن احمد بهاء الدين مجرد استاذ طار يء في حياة من التقوا به, ولكنه كان كالنحات المقتدر الذي يري في الخامة التي امامه صورة الموهبة التي سيستخرجها منه. وعلي سبيل المثال لاالحصر. هل كان يمكن لنا ان نمتلك كنزا اسمه رباعيات صلاح جاهين لولا اسرار الاستاذ بهاء علي ان يكتب صلاح جاهين رباعية مثل اول واحدة قدمها للاستاذ بهاء؟ فرحت بلقائه ولم كين عمري سوي سبعة عشر عاما, وكان يمثل ايامها قيادة لجيل شاب ممن يتحمسون لبناء مجتمع مختلف, ولم يكن من السهل الدخول بسرعة الي ساحة عقله الشاسعة. فهي ساحة تتصل بقلبه مباشرة ويميز علي الفور ماذا يمكن ان تضيف انت الي العالم, وماالذي تستطيع ان تدفعه ثمنا لما سوف تضيفه. ومازلت أتذكر سيارته الفوكسهول الصغيرة التي تتوقف في شارع محمد سعيد المتسع الموجود خلف مجلس الوزراء لينزل منها في السابعة صباحا لتقابله دعوات السيدةام حنفي الموكل اليها تنظيف دار روز اليوسف, وابتسامات ريتا موظفة السنترال, وقامة عم محمد ابوطالب الممشوقة, ليسير في طريق طويل تصطف علي جانبيه مكاتب محرري وكتاب دار روز اليوسف, وحيث لايوجد احد عليها في هذا الوقت من الصباح اللهم الا ان كان رسام الكاريكاتير الشاب حجازي قد جاء من قبله, فكلاهما اول من يدخل في الصباح الباكر, حجازي يحمل اوراق الرسم وزجاجة الحبر الصيني والريشة والمسطرة الحديدية, والاستاذ بهاء يحمل مجموعة الجرائد العالمية والمحلية التي لاادري من اين يأتي بها في الصباح الباكر. وان اذن لك الاستاذ بهاء بالدخول مثلما فعل معي فلسوف يظل واقفا خلف مكتبه الي ان تنطق بما تريد من المقابلة, فان استراح لك جلس ودعاك الي الجلوس. وكنت راغبا يومها في فهم معني رفضه للتعصب الي اي مذ هب سياسي. فهو من اطلق عبارة د راويش الماركسية علي من يقومون بإعادة تفسير وقائع الظروف السياسية في عالمنا العربي حسب جدول لوغاريتمات تمت صياغتها بواسطة المكاتب السياسية للاحزاب الشيوعية. هنا جلس الاستاذ بهاء ودعاني الي الجلوس ليحكي عن قدرة العقل علي صيانة الوجدان من القنبلة غير المرئية التي تفسد حياة الانسان وتجعله مجرد جزء من قطيع, لان مهمة العقل ان يتعرف علي الواقع ويرصده في مسار الاحداث ليستشرف المستقبل بعيدا عن التعصب. ومازلت اذكر كيف اوضح لي ان التعصب مربح لبعض الوقت ولكنه مدمر علي طول الخط. ومازالت كلماته دروس في المباديء هي الصالحة للتعامل في زماننا, فهو من كتب قد يضع اللص مفتاحا في الخزانة يسرقها ويتمتم بسم الله الرحمن الرحيم ومازلت اضحك حين اتذكر هذا الدرس القاسي من دروس المباديء حين طفا الانفتاح السداح مداح ليأكل فرص النمو الطبيعي عن طريق اساءة استخدام الدين عبر شركات توظيف الاموال. وعندما خرج احمد بهاء الدين من روز اليوسف ليرأس تحرير اخبار اليوم, ضاعت علي بعض من التلاميذ فرصة التلاقي مع فاره القامة احمد بهاء الدين, وحين اعلنت له ذلك, قال لي: جاء من بعدي الكاتب الكبير فتحي غانم ومازال يزاملكم الشاعر صلاح عبدالصبور, كما ان كامل زهيري هو واحد من سادة الرؤية العميقة لما يحدث في الكون من احداث. وعلي بعد خطوات من موقع جلوس اي واحد فيكم الفنان عبدالغني ابوالعينين وهو من تستطيع ان تتلقي عنه قدرة الرؤية للفن الفصيح, فلغة اللوحات التشكيلية تحتاج الي بصيرة بجانب البصر. ومازلت اذكر كيف قام باستعراض رحلة المتصوف في فن النحت مثالنا الكبير آدم حنين علي صفحات اخبار اليوم, وكيف ترك هذا الفنان القاهرة بكل صخبها ليرتدي جلبابا بلديا ويركب مركبا نيليا ويهبط علي جزيرة بعيدة في قلب النيل فيما بعد اسوان. وكيف قضي المثال عدة اعوام يعيد رؤية الكائنات لينحتها, ثم يقيم معرضا لتماثيله في بيت السناري بالسيدة زينب. ويفاجئنا من بعد ذلك بتقديم روائية جادة ورائعة تزدهر الحياة الفنية بإبداعها لسنوات وهي الاستاذة الدكتورة لطيفة الزيات صاحبة رواية الباب المفتوح, ثم لايلبث الا قليلا ليضع امام عيوننا رؤية الغرب المتعالية لواقعنا من خلال عرضه لرباعية لورانس داريل, وكيف رأي فيها عجز الغرب عن النظر الينا كبشر بل مجرد كائنات تشغل مواقع جغرافية ذات فائدة هائلة يمكن ان يستفيد منها الغرب وحده. ويترك اخبار اليوم ليلتحق بدارالهلال رئيسا ويصر علي ان يضع اسم فكري باشا اباظة سابقا لاسمه, ففكري باشا هو المؤسس لتلك المجلة ولايصح ان يأتي من كان في موقع التلميذ ليجعل اسمه سابقا لموقع الاستاذ, وتضيء مطبوعات دار الهلال اثناء قيادته لها بتجديد يعمق من رصانتها ويضيف لها حيوية كانت تفتقدها وهل يمكن ان ننسي انه هو اول من قدم لنا المفكر الموسوعي جمال حمدان صاحب رباعية موسوعة شخصية مصر؟ وحين يرغب جمال عبدالناصر في اعادة ضبط ميزان التقدم دون خلل يعيد انتداب احمد بهاء الدين ليرأس روز اليوسف بجانب رئاسته لدار الهلال, فيوزع وقته بالتساوي بين المؤسستين ليقيل المؤسسة التي قدمته كاتبا من عثرات التعصب بدعوي التقدم. وكم كان الرجل صاحب حنان بالغ علي من يرفضون التعصب كائنا من كان. ومازلت اتذكر كيف اهداني حقيقة مستقبلي وكأنه قرأ نبوءتي الذاتية من التخصص في الكتابة النفسية, وارشدني الي اي نوع من القراءات يمكنه ان يقيدني. ولايتوقف تيار عطائه فيشارك في قيادة الاهرام لسنوات, ثم يسافر الي الكويت ليجدد حيوية مطبوعة احبها العرب من المحيط الي الخليج وهي مجلة العربي, ثم يعود مقاتلا عبر عمود يومي بعنوان يوميات, صار وجبة وعي يومية لكل من يطالع الاهرام الي ان توقف بالمرض عن مواصلة الجهد لكن ماسبق واعطاه ظل ويظل زادا لاينفد لكل راصد لأفكار التواصل مع بناء المستقبل دون اهدارلايجابيات الماضي. ولكل ذلك ما أن يطل شهر فبراير من كل عام حتي أبدأ بالاحتفال بعيد ميلاد الاستاذ بهاء في اليوم الحادي عشر من هذا الشهر المزدحم بالبرودة, وأهمس لصورته في خيالي قائلا: اتذكرك دائما فأنت من جئت ذات شتاء لتبعث في اوصال اجيال قدرة علي صناعة الد فء في منطقة تحتاج الي نفي التعصب يمينا او يسارا, لنأخذ من الواقع رؤية لما يجب ان نصنع عليه مستقبلا غير سابق التجهيز كل سنة وأفكارك طيبة ياأستاذ بهاء.