مناخ الأخطاء والفساد مسئول عن التراجع الثقافى في منزله بالزمالك يقضي الروائي بهاء طاهر فترة النقاهة بعد عودته من جنيف إثر إجرائه جراحة ناجحة. يستعيد بهاء لحظات الألم، غير أنّ صوته يكتسي بمسحة ساخرة لا جدال فيها: "أجريت جراحة إزالة تضخم حميد في البروستاتا. كتبت بعض الجرائد (يضحك) أنها عملية استئصال كامل للبروستاتا. كانت جراحة صعبة إلي حد ما، مكثت بعدها أسبوعاً بالمستشفي، ورغم أنني لم أبلغ سوي بناتي بهذا الأمر إلا أنّ الخبر الذي نشرته جريدة (الشروق) عرّف أصدقائي بالأمر، فبدأوا في الاستفسار عن أحوالي إما بالتليفون أو بالإيميل، أو برسائل الموبايل. كانت المكالمة الأكثر تأثيراً علي روحي مكالمة تلقيتها من الصديق الروائي محمد ناجي الذي كان متواجداً في باريس لإجراء تحاليل وفحوصات تسبق إجراء جراحة، كما أرسل لي الصديق الروائي جمال الغيطاني إيميلاً للاطمئنان عليّ وليبلغني بأمنياته لي بالشفاء، وفعلت الشيء نفسه معه، لقد تأثرت بسؤال هذين الكاتبين علي وجه التحديد، وأنا لا أريد ان أنسي أحداً، ولكن عموماً تلقيت مكالمات من الدكتور نصار عبد الله أستاذ الفلسفة، والأستاذ إبراهيم المعلم، والروائي يوسف القعيد، والكاتب الشاب محمد علاء الدين. لم أكن أريد إزعاج أحد، فالأمور الشخصية تبقي شخصية في النهاية". خلال العمليات الجراحية تحاصرنا الهواجس المخيفة. هل سيطرت هذه الهواجس عليه؟ يجيب بهاء: "الهواجس تحاصر حتي من يجري عملية إزالة الزائدة الدودية، وقطعاً كان ثمة قلق شديد، وهناك عوامل للقلق، منها ارتفاع السكر، والضغط المرتفع، والتدخين. (يضحك).. في الخارج يعتبرون أنّ التدخين مرض لدرجة أنهم لم يعترفوا بكل التحاليل التي أجريتها قبل دخولي المستشفي، واعتبروا أنها قد تكون خادعة بسبب معرفتهم بأنني مدخن، وقالوا ربما يكون هناك شيء خفي لن يظهر إلا بإجراء مزيد من التحاليل. أجروا كشفاً ذرياً للقلب بديلاً للقسطرة، وكانت المرة الأولي التي أعرف فيها أن هناك كشفاً من هذا النوع. كان الهدف تحرّي عدم وجود عوامل خطر تعيق إجراء الجراحة".. يصمت طويلاً، ويتعلق نظره بشاشة التلفزيون لمدة طويلة قبل أن يضيف: "..ولكن وجود أولادي وأحفادي معي كان عنصر تشجيع كبير، وتمت العملية علي خير في النهاية". يقضي بهاء طاهر وقتاً لا بأس به أمام التلفزيون يتابع القنوات الإخبارية. في اليوم الذي أجريت معه الحوار كان يتابع قناة أجنبية تبث فرحة الشعب الشيلي بإنقاذ عمّال المنجم. قال بهاء: "تخيل، الإعلام المصري يبدو كأنما لم يسمع بالموضوع، أنا حتي لم أصادف خبراً". يتابع صاحب »نقطة النور« أحوال العالم عبر الفضائيات، ويردّ علي مكالمات أصدقائه الذين يطمئنون علي أحواله، ويقرأ. يقول: "أقرأ كثيراً جداً، قرأت لكويتزي، وساراماجو، واستعدت نجيب محفوظ. قرأت له تحديداً (أولاد حارتنا)، كما قرأت لكتّاب جدد، والآن أقرأ أجاثا كريستي. القراءة كانت ولا تزال تسليتي الوحيدة". قرأ بهاء لساراماجو عمليه المهمّين "انقطاعات الموت" و"الشبيه". أعلم جيداً عشقه للكاتب البرتغالي الحاصل علي نوبل، وأسأله عن سر هذا الولع فيقول: "موهبته لا جدال فيها، إنه كاتب يعرف جيداً كيف يولّد المعاني، كما أنه كاتب أمين، وملتزم بأفكاره، وهو كان أكبر صديق للفلسطينيين، وقد أرسل وهو علي فراش الموت لصديق سويدي كان متواجداً علي سفينة قافلة الحرية برقية من ثلاث كلمات، ولم يدافع أحد عن القضية الفلسطينية بمثل قوة دفاعه واندفاعه في الزود عنها. الإسرائيليون قالوا إنه متأثر بالدعاية الفلسطينية الرخيصة.. فردّ قائلاً: أفضل من التأثر بالدعاية الإسرائيلية باهظة الثمن، كما قال إنّ تأثّر إسرائيل بالنازية جعلها تحوّل غزة بالكامل إلي معسكر اعتقال. نعم.. أنا معجب بنزاهته، لقد عاش ماركسياً ومات ماركسياً، عاش مدافعاً عن قضايا الحق، وكان متفجّر الموهبة، وحينما أعيد قراءة صفحات أعماله يبدو الأمر كما لو أنني أستمع إلي موسيقي رائعة". هل التزام الكاتب شرط ليكون من الكتّاب المفضلين بالنسبة لبهاء؟ يجيب: "شيء مدهش. لقد كنت أتناقش حول ذلك الأمر منذ ساعات مع أصدقاء. أنا ومحمد المخزنجي رأينا أن الكاتب لا يكون جيداً فنياً ورديء الأخلاق في الوقت نفسه، أنا لا أعرف كاتباً جيداً ونذلاً في الوقت ذاته. لقد ضربوا لي أمثلة بأدباء عظماء كان سلوكهم رديئاً. الإنسان لا يكون جيداً في جانب وسيئاً في جانب آخر، حتي ولو قالوا إن دستويفسكي كان مقامراً ويغار من بعض الكتّاب. أنا لم أقتنع بهذا. الشرّ لم يكن متغلغلاً في سلوكه. الغيرة تكون حاضرة أحياناً. حينما تقرأ سيرة أنطون تشيخوف ستجد أنه كان ملاكاً بكل ما تحمله الكلمة من معان. لقد أخطأ في حياته. نعم، ولكنه وهو مريض بالسلّ كان يعالج المرضي مجاناً وهذا قمة الإنسانية". ويستدرك: "الكاتب قد يكون مجنوناً ولكنه لا يكون سيء السلوك أبداً"! نظرية بهاء تنطبق علي كل القدامي، باستثناء كاتب وحيد كان لصيقاً بالسلطة ولم يرغب في ذكره: "د. محمد مندور، أنور المعداوي، ثم الجيل التالي، نجيب محفوظ، ويحيي حقي، ويوسف إدريس. الأخير كانت له شطحات غير أنه لم يكن شريراً، كان كالطفل، كل ما كان يضمره كان يعلنه، وقال: أنا أحق بنوبل من محفوظ، وهذا القول يؤكد شطحاته غير العادية، وأنا أعتبره واحداً من أهم الكتّاب في تاريخ الفن، ومن جيلي.. هناك أبو المعاطي أبو النجا، وغالب هلسا، وسليمان فيّاض، وإبراهيم أصلان، ومحمد مستجاب، وخيري شلبي. هؤلاء كانوا الأقرب إليّ، ولم أر فيهم شرّاً، وهناك فروق كبيرة بين هذين الجيلين والأجيال الجديدة".. يفسّر: "الآن هناك أكثر من ثلاثمائة كاتب، وهو ما جعل الصراع علي النشر أكثر حدّة.. مع أن وسائل النشر الآن متاحة ومتعددة. عبد الفتاح الجمل كانت لديه دائماً »كومة« نصوص، كنا نذهب إليه فيشير إلي هذه »الكومة« قائلاً: "لما ييجي عليك الدور". يحيي حقي كان ينشر مرة واحدة في العام، لدرجة أنني مللت الانتظار ذات مرة وسحبت منه قصة "نهاية الحفل" وسلّمتها لمجلة "صباح الخير". الآن هناك جوائز ومنح. الكعكة صغيرة والأفواه كثيرة. هل أضيفُ إلي ذلك المناخ الاجتماعي العام؟ علي أيامنا كان المناخ صحياً، أيام تأميم قناة السويس وبناء السد العالي والأحلام الوطنية الكبري. الآن نعيش إحباطاً عظيماً، نعيش مناخ الأخطاء والفساد. سيمون دي بوفوار في روايتها "المثقفون" كانت لديها شخصية قيل إنها ترمز لألبير كامو. كانت كما لو أنها تعاتبه. قالت له : كنا أيام مقاومة النازي في منتهي الاستقامة ولكن بعد ذلك فسدت أخلاقنا، وهو ردّ عليها: "أنت لا يمكنك رسم خط مستقيم علي دائرة، كما أن الشخص لا يكون صادقاً في مجتمع خاطئ". لقد أثبتت لي التجربة صحة هذا، فحينما يكون المناخ العام سيئاً من الصعوبة أن يكون الناس جيدين".. ويضيف: "أفضل الكتاب الجدد ما يزالون الأفضل خلقاً ممن أعرف، المجيدون منهم ليسوا سيئي الأخلاق". هل كان يتوقع اسم ماريو بارجاس يوسا في نوبل؟ يجيب: "نعم كنت أتوقع رغم أنني كنت أتوقع أيضاً آسيا جبار لأنها في القائمة القصيرة. أنا لا أحب يوسا كثيراً، ولست من المبهورين به، وقد قرأت له عدداً لا بأس به من الروايات، وأعتبره كاتباً حرفياً، ولكنه متوسط القيمة والموهبة".. وهل لا يزال أمل العرب قائماً في الحصول علي هذه الجائزة قريباً؟ يقول: "من يفكر في هذا أياً كانت جنسيته يحتاج إلي مراجعة الطبيب النفسي، العالم به مائتا بلد، منها مائة علي الأقل بها كتاب جيدون، وفي كل بلد هناك كاتب ممتاز، وفكرة الحصول علي نوبل تشبه حصولك علي "اللوتريه"، وأنا أعرف كتّاباً لا يزالون مؤمنين بإمكانية الحصول عليها".. بهاء مصرّ علي الاستمرار في العزلة الاختيارية التي فرضها علي نفسه: "هذا أكثر راحة، لم تعد الحياة في الخارج جيدة، من الممكن أن تتحدث ببراءة فيؤخذ كلامك علي محمل سيئ. المناخ أصبح فاسداً، ولا يمكن أن تكون الثقافة بمعزل عن المناخ العام". يطرح بهاء وجهة نظره في أحداث ثقافية ومنها استبعاد روايات مصرية من معرض الكويت: "لم يدهشني خبر الاستبعاد، فالكويت تعيش فترة غريبة سياسياً وثقافياً، والمرحلة الجديدة بدأت من أيام غزو صدام حسين، هذا الأمر أحدث "لخبطة" عامة، والآن هناك أمور تجري في الكويت، بعضها مبرر والبعض الآخر لا. الموقف الممتد من العداء للعراق لم يعد مبرراً، كانت الكويت مكاناً لقيادة العروبة، وقد رسخت مجلة العربي هذا التوجه أيام أحمد زكي، وأحمد بهاء الدين، الآن هناك نظرة قطرية متعصبة، وقد أصبح نفوذ التيارات الإسلامية هو الأبرز".. حزن صاحب "أنا الملك جئت" حينما قرأ خبر نقل معرض القاهرة للكتاب إلي قاعة المؤتمرات: "كان المكان القديم ميزة، كانت المسافة إليه من وسط البلد معقولة وميسورة، أنا شخصياً أعتبر أن السفر إلي مصر الجديدة أصعب من السفر للخارج، هناك شخص اسمه "المنكد العام" مهمته اختراع طرق لل"عكننة" علي الناس وتنفيذ هذه الطرق فوراً". ولكن ماذا عن المشكلة الدائرة بينه وبين قسم النشر بالجامعة الأمريكية؟ يقول: "منذ مدة طويلة توقفت عن الرد علي رسائل وكتابات قسم النشر في الجامعة الأمريكية بسبب أسلوبها الاستفزازي الذي لاينم عن إدراك للياقة الواجبة عند مخاطبة الأدباء أو مخاطبة أي إنسان في واقع الأمر. ومن نماذج هذه اللغة العدوانية مايرد في تصريحات المشرف علي القسم المذكور في جريدة "أخبار الأدب" بتاريخ 26 سبتمر الماضي والذي يفترض فيه أنه رد علي الدكتور حسام لطفي أستاذ القانون بالجامعة وذلك من قبيل "قام الدكتور لطفي يتلفيق واختلاق وقائع.. كما ادعي قصصاً أخري عن قسم النشر بالجامعة تم اختلاقها ...إلخ" وبعد اتهامات وإساءات كثيرة للدكتور لطفي من هذا النوع ينتهي بتوجيه إنذار خطير له ولشخصي الضعيف "باللجوء إلي إجراء قانوني بدعوي التشهير "!! ويضيف: "وأعتقد أن الدكتور لطفي أستاذ القانون القدير سيكون قادراً علي التصدي لهذا التهديد وأثق أنه سيشملني معه. سأترك إذن هذا الأمر وأركز علي علي ثلاث نقاط سريعة: 1- يتظاهر الرد بأن هذه هي المرة الأولي التي يتم فيها الطعن في مدي شرعية عقوده، ويغفل عامداً أن الأديب الكبير صنع الله إبراهيم قد رفع قبل سنوات قليلة قضية علي قسم النشر بالجامعة الأمريكية لنفس السبب وهو عدم تحديد مدة سريان العقد. وقبيل نظر القضية مباشرة تراجع القسم المذكور واستجاب لطلب الأستاذ صنع الله المشروع تماماً وعدل عقده بالنص علي سنوات محددة لسريانه . فلماذا لايعمم القسم هذا المسلك الصائب في حالتنا وفي كل الحالات المماثلة بعد أن أفتي اتحاد الناشرين المصريين بأن تحديد المدة شرط أساسي لصحة سريان العقد بموجب القانون المصري ؟ 2- يكرر الرد كثيراً كلمة" الاختلاق" ولكنه يورد هنا للمرة الأولي أن هناك اتفاقاً موقعاً بين دار النشر وبيني يتضمن قيام دار نشر "أرابيا" بتوزيع نسخ ترويجية من رواياتي، وبما أنني لم أوافق يوماً علي نشر أعمالي في دار أرابيا الصغيرة المغمورة هذه فعليه إظهار هذا الاتفاق الموقع مني حسب زعم الدار وإلا فإن هذا هو الاختلاق بعينه.. 3- أعتذر لجريدة أخبار الأدب التي نالها بسببي جانب من الرد المهذب لقسم النشر بالتشكيك في مصداقية وتوثيق مانقلته عني وأضع بين أيديكم للتوثيق صورة لنص الخطاب الذي أرسلته عن طرق وكيل أعمالي في لندن إلي دار نشر الجامعة الأمريكية قبل سنتين تقريباً مطالباً بإطلاعنا علي نص العقود التي أبرمتها من الباطن مع دور نشر أخري (ومن بينها دار أرابيا بالطبع) لنعرف مدي ومدة الالتزامات التي تترتب علينا بموجب هذه العقود من الباطن. ورغم مرور كل هذه المدة فلم نتلق أي رد من قسم النشر ولا حتي إقرار استلام الخطاب رغم المطالبات والمناشدات المتكررة من وكيل الأعمال ومازلنا نجهل حتي الآن ما الذي التزم به قسم النشر باسمنا، وهذا نموذج لمدي احترامه لالتزاماته مع المؤلفين المتعاملين معه. وأود أن أطمئن أخبار الأدب إلي أن المسألة لاعلاقة لها بالتوثيق أو بغيره بل بأن القسم ليس لديه أي رد علي الوقائع المذكورة".. ويختم قائلاً: "أنا لم أعلق هنا إلا علي مايخص الآخرين أما كل الادعاءات والإساءات التي تخصّني شخصياً فسيكون مكانها القضاء الذي سأقبل حكمه راضياً".