لا أملك إلا إيمانًا قويًا جدًا وحبًا لكل الدنيا وتسامحًا لكل من ظلمني أو أخطأ معي أو في حقي.. وأملك فقط ذاكرة حديدية. ولدت عام 1943 في أسرة تكره البنات، وقالت إحدي خالاتي لوالدي: «كفاية عندك بنت حلو إذا جاءت بنت ثانية سيبي «صرتها».. وإذا بالقدر ينقذني من جبروت خالتي الطيبة جدًا ولدت في كيس مقفول، وإذا بوالدي قبل وفاته.. يصيح: «الحمد لله، إن الذي بداخل هذا الكيس سيكون محظوظًا، وفعلاً تحقق كلامه، وعام 1949 تعرفت علي شاب جميل بالصدفة. وكان إحسان عبدالقدوس الذي تبناني بعد وفاة والدي وأنا عمري 6 سنوات، اختارني للعمل معه عام 1955 في مؤسسته «روزاليوسف»، وعندما أصدر مجلة «صباح الخير» اختارني للعمل كأول سكرتيرة لأول رئيس تحرير للمجلة، الأستاذ أحمد بهاء الدين، وهذا إلي جوار عملي معه كسكرتيرة، كنت في غاية الحيرة عندما يدق الجرس من الاثنين مرة واحدة - ومن أجمل المداعبات التي كان يطلقها عليّ رسام الكاريكاتير بهجت عثمان: «ألحقي ردي علي سيدك الكبير الأول وبعدين روحي لسيدك الصغير!!». الأستاذ بهاء كان يجلس في آخر حجرة في المؤسسة وإحسان عبدالقدوس في ثالث حجرة، ونحن كلنا ثقة فيهما. طلب مني الأستاذ بهاء أن أترك العمل في «روزاليوسف» عندما عُين في جريدة «الشعب» ولكني اعتذرت واختار الطالبة التي كانت تكتب في «صباح الخير» الزميلة العزيزة والصديقة الحميمة «زينب صادق» أطال الله عمرها ومتعها بالصحة والعافية. استمرت علاقتي بأحمد بهاء الدين حتي وفاته واستمرت علاقتي بأسرته الكريمة حتي اليوم. أتذكر دائمًا عيد ميلاده ويوم وفاته.. ويالها من ذكري! كنت أقابله عندما عُين إحسان عبدالقدوس في الأهرام كان في الدور الرابع ونحن في الدور السادس.. جناح الخالدين ولأنني رغاية جدًا كنت دائمًا أحكي لهم كل ما أراه.. كل يوم أحكي عن مخلوق أراه، حتي سفرياتي، وفي أثناء أجازاتي.. كان الأستاذ إحسان يستغلها في كتابة الحكايات والقصص وأحمد بهاء الدين يكتب بعضها في العمود اليومي في الأهرام. هذا العام مر يوم ميلاد أحمد بهاء الدين بمنتهي الهدوء، فاتصلت بالسيدة الفاضلة زوجته، وكنت أحاول عمل حديث صحفي معها، لكن زوجته قالت لي «روحي زوري مكتبنا وشوفي إحنا عاملين إيه لأحمد بهاء الدين»، وأسفرت هذه الزيارة عن السبق الصحفي لمركز أحمد بهاء الدين في مسقط رأسه بالدوير في محافظة أسيوط، وفي كتابي الجديد الذي سيكون مفاجأة في ذكري وفاة الأستاذ أحمد بهاء الدين، والذي يحمل عنوان «إحسان عبدالقدوس» سيتضمن أجمل ما كتبه أحمد بهاء الدين عن إحسان عبدالقدوس بعد وفاته في عموده بالأهرام، وأيضًا أجمل ما كتبه إحسان عبدالقدوس عن أحمد بهاء الدين في روزاليوسف. أحمد بهاء الدين بقلم عبدالقدوس هذا مقال نادر يروي فيه «إحسان عبدالقدوس» كيف تعرف علي أحمد بهاء الدين وكيف أصبح هذا الشاب الخجول أول رئيس تحرير لمجلة «صباح الخير». منذ خمس سنوات كان يصلني كل أسبوع خطاب أزرق أنيق يحمل اسمي مكتوبًا بخط رقيق حالم.. وكنت أفتح الخطاب بلهفة فأجد فيه مقالاً سياسيًا موقعًا باسم كاتب لا أعرفه.. كاتب اسمه «أحمد بهاء الدين». واستطعت أن أقبض علي الكاتب لا أغالي، فقد أرسلت كل زملائي وراءه للقبض عليه فعلاً.. ثم ناقشته وحكمت عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة في «روزاليوسف»، ثم أقمنا له سجنًا خاصًا أطلقنا عليه اسم «صباح الخير». وقد عرف أحمد بهاء الدين كيف يدخل الصحافة من بابها الصحيح.. فترك عمله يقدمه إلي، ثم ترك عمله يقدمه إلي القراء.. ولم يحدث في خلال السنوات الخمس أن اعتمد بهاء علي شيء غير عمله.. وقد ارتفع به عمله.. ولايزال يرتفع به. ولم يعد بهاء محررًا في الدار فحسب - ولا رئيس تحرير فحسب - إنه أخ أحلامي.. إننا نحلم سويًا، ونفكر سويًا، ونخطئ سويًا.. ونتشاجر سويًا. ومنذ عرفت بهاء وأنا أبدأ كل صباح بالبحث في بريدي عن الخطابات الزرقاء. من يوميات أحمد بهاء الدين يروي أحمد بهاء الدين قصة أول مقال نشره في مجلة روزاليوسف وكيف تصدر هذا المقال الصفحة الأولي للمجلة رغم عدم معرفته برئيس التحرير «إحسان عبد القدوس». كان ذلك في أوائل سنة 1952 وكان إحسان عبدالقدوس يقود من مجلة روزاليوسف معركة باسلة ضد فساد الإنجليز والقصر. وكانت مجلة «روزاليوسف» أقوي منبر في هذه المعركة وكان طبيعيًا أن يتجه الشباب إليها وأن تكون المجلة الأولي في ذلك الوقت في الشرق الأوسط كله. وذهبت ذات صباح إلي مبني المجلة القديم في شارع محمد سعيد المتفرع من شارع قصر العيني.. وأعطيت بواب المجلة مقالاً في مظروف يحمل اسم إحسان عبدالقدوس الذي لم أكن أعرفه ولم يكن بالطبع يعرفني وكان مقالاً ليس سهلاً. فيه تعليق عنيف علي الميزانية الجديدة للدولة في ذلك الوقت وقراءة في أرقامها التي كانت تستورد وقتها المجوهرات والفراء دون ذكر أي أداة إنتاجية واحدة ولم يكن هذا القاموس واردًا في تلك الأيام. وفي يوم الاثنين التالي مباشرة اكتشفت أن «روزاليوسف» قد صدرت وقد نشر فيها هذا المقال: افتتاحية! ملأت الصفحة الأولي كلها بعناوين كبيرة: وفي آخرها توقيع شاب مجهول تمامًا هو أنا.. مجهول للقراء ومجهول لصاحب الجريدة ورئيس التحرير! هذا التصرف غير المألوف عندنا الآن، اختصر عشر سنوات علي الأقل من كفاحي الصحفي لأشق طريقي في مهنة الصحافة! ولو كانت هذه الروح عندنا في شتي مجالات الحياة... لاختصرت بلادنا كلها عشرات السنين في طريق التقدم! هذه الروح لا تقدر بثمن! هي الجوهر الراقي في تطور الأفراد والمجتمعات بعكس روح قتل المواهب التي تعطل الشعوب وتعطل حركة الحياة! إنني أروي هذه القصة دائمًا عن إحسان عبدالقدوس في حياته وفي مماته وقد اتفقنا واختلفنا ولكن هذه الواقعة تعلو علي كل شيء وتعطي هذا الجيل فكرة عن مرحلة من الحماس الوطني والنقاء الوطني وحب العمل. رحمه الله رحمة واسعة.. بقدر ما أعطي للوطن.. وللقراء.. وما أخرج من أجيال.