لا اندهش حين أزور روما من مشهد انسان يرفع حاجبه الأيسر بشدة ملحوظة, فمعني ذلك انه يتوقع امرا مهما ولا أفقد الانتباه إن ضغط واحد من أبناء صقلية علي أسنانه أو حاول أن يثني ذراعه ويحاول تقريب كوعه ناحية فمه في محاولة مستحيلة لان يعض هذا الكوع, وهو الأمر المستحيل, ولكن دلالة ذلك عند ابن صقلية يعني قبوله لتنفيذ المهمة التي تطلبها منه مهما بدت مستحيلة. واغلب زوار ايطاليا يعلمون ان الايطالي مشهور في كل أوروبا بأنه لايتكلم بلسانه فقط ولكن بكل حركات جسده, ومن المضحك ان يكون هذا هو السبب الجوهري الذي يشكو منه خبراء تدريب الساسة علي التصرف بحركات وايماءات لايظهر منها حقيقة مايريد السياسي التعبير عنه, فكثرة التعابير التلقائية بملامح الوجه وحركات اليدين تفضح اغلب ساسة ايطاليا, عكس الانجليز أو الفرنسيين, وطبعا عكس الساسة الأمريكيين, هؤلاء الذين يقوم الواحد منهم في الصباح لتلقي تدريبات علي ما يجب عليه ان يفعله طوال النهار, فجزء اساسي من عمل السياسي الأمريكي ان يتقن فنون الاداء علي مسرح الحياة العامة اما في ايطاليا فالامر شديد الاختلاف, لانك ان لم تكن تلقائيا سيصعب عليك اقناع من حولك بما تقول, فهم يقرأون بسرعة شديدة حركات جسدك, وهل انت ايطالي مائة بالمائة ام ان علوم السلوك المعاصرة قد طغت عليك وجعلتك تبدو كممثل يؤدي مسرحية تحبها هو ان تكون قائدا في منطقتك ولكن مدي توافقك مع الدور المنوط إليك قد لايتيح للجمهور حالة الاعجاب بما تؤديه علي المسرح الاجتماعي العام. هذا ما كان يقوله لي د. شريف بسيوني استاذ القانون الجنائي الدولي والذي يرأس مجلس إدارة واحد من أكبر معاهد دراسة القانون في عالمنا المعاصر والموجود بمدينة صغيرة هي سراكوزا بجزيرة صقلية, ويشهد هذا المعهد دورات تدريبية شهرية لشباب القانونيين من انحاء الكون, ويحاضر فيه اساطين فلاسفة القانون, وقد حضرت فيه كمستمع سبع دروات عن حقوق الانسان في العالم العربي, وكانت دورات ناجحة بكل المقاييس حيث طرحت المشكلات وتمت مناقشة الحلول, وكنت واحدا ممن اثاروا قضية حقوق الشعوب في العالم النامي في مواجهة اهل القوة من الدول الكبري, فنحن مهما ارتفعت اصواتنا عن حقوق الانسان, فلن نستطيع نسيان الحملات التي تصور الفلسطيني كمغتصب, وتصور الإسرائيلي كمعتدي عليه, وتلك هي النغمة السائدة في اعلام الغرب وعلي ألسنة رجال السياسة فيه, وقد اخذت جهود السلام وقتا لتقنع حكومات اوروبا علي سبيل المثال ان الفلسطيني هو ضحية المساندة اللا نهائية التي تلقاها إسرائيل من الغرب, وبات من الواضح الآن وجود مسافة ما بين التأكيد الأمريكي لإسرائيل وبين مطالبة أوروبا لإسرائيل ان تتوخي الامانة من فكرة حق الانسان الفلسطيني في الحياة, ومازالت الرحلة مستمرة من أجل ايقاظ الضمير العالمي إلي خقيقة بسيطة يخفيها تجار الاسلحة ومغتصبو المواد الخام, وهي ان جوهر مشكلات الشرق الأوسط يكمن في ضرورة توفير مناخ حقيقي لقيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل, وان الحياة في قلعة مدججة بالسلاح هي إسرائيل لن يحقق الأمان لا لليهود ولا للغرب ولا في اي مكان في العالم, فحتي مشكلات روسيا مع الشيشان يمكنك أن تجد ضمن أسبابها مشكلة فلسطين, كما أننا لايمكن أن نتجاهل أن استخدام قادة العنف للملف الفلسطيني هو مجرد استخدام لغوي دون ايمان حقيقي, فمن يصدق ان فلسطين يمكن ان تتحرر بتفجير برج التجارة العالمي, أوتفجير السفينة كول, أو تفجيرات عشوائية في لندن ومدريد, وغيرها من عواصم العالم الغربي؟ والذي جعلني افكر في كل ذلك هو الكتاب الذي اهداه لي شريف بسيوني عن الشعب الايطالي لمؤلفه لويجي بارزيني وهو المثقف المولود منذ أكثر من مائة عام, ويشرح لويجي بارزيني اخلاقيات الايطاليين بكلمة موجزة للغاية ألا وهي البحث عن الجمال في كل شيء, فاذا كانت ايطاليا نقطة المنتصف بين شمال أوروبا البارد وبداية شاطئ البحر المتوسط المزدهر بالحياة والحضارة, فلا اقل من ان يوجد الدفء الانساني في شيء يصنعونه ويقدمونه للعالم. المزيد من مقالات منير عامر