منذ أيام قليلة أطلق اتحاد الصحفيين العرب تقرير الحريات الصحفية في الوطن العربي عن عام2009, وهو التقرير الثالث في سلسلة تلك التقارير, وجاء هذا العام أكثر تطورا, يقدم صورة أقرب إلي الواقع لحالة الحريات الصحفية في الوطن العربي. ويجيء التقرير في مواجهة تقارير دولية تصدر عن عدة جهات تستفزنا جميعا اكاديميين وممارسين بدرجات متفاوتة طبعا. ومن الأمور الايجابية التي تميز بها تقرير الحريات الصحفية في الدول العربية هذا العام, ومثلت اضافة عالجت بعض جوانب القصور التي شابت التقارير التي صدرت في العامين الماضيين, تطبيق صحيفة استبيان أو استقصاء حول الوضع الراهن لأوضاع الصحافة والصحفيين العرب اجاب عنها عدد من الخبراء والقيادات النقابية والمهنية لم يحدد التقرير عددها أو خصائصها. وقد انتهي التقرير إلي مجموعة من المؤشرات العامة المهمة منها: أولا: أن هناك اتجاها متناميا نحو مزيد من حرية الصحافة في معظم الدول العربية وإن تباين حجم هذه الحرية من دولة لأخري حيث تتمتع الصحف بهوامش حرية واسعة تسمح بوجود الرأي والرأي الآخر وتستوعب التنوع واختلاف الرؤي في ظل وجود قوي معارضة يعترف بمشروعيتها. ثانيا: مازالت هناك بعض القيود التشريعية والادارية التي تمثل ضغوطا علي حرية الصحفيين, وهذه أيضا مسألة تتفاوت من بلد عربي إلي آخر, وتتمثل هذه القيود في اسلوب اصدار الصحف( الغالب هو الترخيص المسبق وليس مجرد الاخطار) واستمرار وجود بعض اشكال الرقابة علي الصحف في بعض الدول العربية, وفرض عقوبات علي الصحف في بعضها. ثالثا: استمرار بعض الدول العربية في الأخذ بمبدأ حبس الصحفيين وتعرض بعضهم خاصة في عدد من الدول التي تشهد حروبا ونزاعات( مثل العراق, اليمن, فلسطين) للقتل والخطف والتعذيب البدني والفصل من العمل والنقل التعسفي, ويلاحظ ان عام2009 شهدا ايضا تزايد معدلات الاحكام الصادرة بالغرامات المالية بديلا عن عقوبة الحبس. رابعا: يشهد العديد من الدول العربية قدرا متزايدا من التعددية والتنوع سواء في المضمون أو في انماط الملكية, للجمع بين الملكية العامة للصحف, والملكية الخاصة من خلال الشركات المساهمة, فضلا عن الصحف الحزبية. خامسا: مازالت هناك مشكلات تتعلق بالحق في الحصول علي المعلومات, لاسيما أن كل الدول العربية عدا الأردن لم تصدر حتي الآن قوانين تنظم حرية تداول المعلومات, وإن كانت بعض القوانين المنظمة للمهنة تتضمن نصوصا تكفل حرية الحصول علي المعلومات والحق في ذلك للصحفيين. ومن خلال القراءة التحليلية للتقرير يمكن رصد بعض الظواهر التي أراها جديرة بالمناقشة والاهتمام منها: 1- عدم اصدار قانون الانشطة الاعلامية في دولة الامارات العربية المتحدة رغم تقديم الحكومة لهذا المشروع بعدما أثار اعتراض جمعية الصحفيين الاماراتيين, ولتفتح حوارا كافيا حوله وهذا اتجاه ايجابي في اقتناع الحكومات بأهمية أن تضع في اعتبارها عند اصدار قوانين تنظم مهنة الصحافة آراء الاعلاميين والصحفيين انفسهم, فضلا عن أهمية اثارة نقاش مجتمعي حول مثل هذه التشريعات التي تؤثر في حياتنا جميعا. 2- مازال موضوع الحقوق الاقتصادية للصحفيين معلقا خاصة ما يتعلق بأجورهم ومرتباتهم وحتمية ان تكون مناسبة بما يكفل لهم حياة كريمة, ويجعل الصحفي يعمل في مناخ يشعر فيه بأنه آمن علي يومه وغده, ويحميه من الضعف البشري أمام الاغراءات, بما يتيح امكانية تحقيق مبدأ النزاهة المهنية بمعني أن يكون دافع الصحفي في كتاباته وتقاريره الصحفية المصلحة العامة, وليس مصلحة شخصية أو منفعة ذاتية, ويضع حدا لاستمرار عمل بعض الصحفيين في جلب الاعلانات والجمع بين العمل التحريري والاعلاني. ويلاحظ أن بعض النقابات لم تجب اصلا عن هذا الموضوع. 3- اشارت بعض التقارير بشكل سريع, لأوضاع قطاع الاعلام المسموع والمرئي, واهمية تنظيم البث له وموضوع التراخيص وغير ذلك, وهي مسألة مهمة تقتضي توجيه مزيد من الاهتمام لاسيما بعد تزايد تأثير القنوات الفضائية الخاصة في المواطن العادي ودورها في ترتيب أولويات اهتمامه والتأثير في أفكاره ورؤيته للعالم المحيط به, ولنفسه والآخر. 4- تناولت بعض التقارير منها تقرير تونس موضوعا آخر آراه ايضا جديرا بالاهتمام ونستشعر اهميته في حالة مصر أيضا, وهو الحاجة إلي إعادة النظر في تعريف الصحفي المحترف وشروط القيد في النقابة, بعدما انتشرت ظاهرة تشغيل بعض غير المؤهلين علميا أو غير الجديرين بممارسة مهنة الصحافة في بعض الصحف الخاصة, الأمر الذي يثير بالنسبة لنا في مصر أهمية اتخاذ خطوات ايجابية نحو قانون جديد لنقابة الصحفيين. 5- اشارت بعض التقارير ايضا إلي مشكلة المضمون الصحفي وشكل الصحف العربية, التي يعاني بعضها من الرقابة وعدم التجديد وغياب الابداع, ويتجه بعضها إلي الاثارة وتكرس الابتذال وتخاطب الغرائز وتروج للفكر الغيبي والشعوذة, وتتعامل مع حرمة الحياة الخاصة ومبدأ الحق في الخصوصية باستهانة كاملة وعدم اكتراث ولا مبالاة. 6- هناك حاجة ايضا للاهتمام بتنظيم الصحافة الاليكترونية التي يتزايد دورها وحجم المتعاملين معها يوما بعد يوم, بما تحققه من تفاعل وما تسمح به من قدرة المواطن علي أن يصنع صحافته الخاصة, حتي أصبحنا أمام ظاهرة متناهية يطلق عليها صحافة المواطن. وهناك أهمية لمناقشة وضعية الصحفيين الممارسين للعمل بالصحف الالكترونية وكذلك وضعية المواطنين العاديين الذين أصبحوا يقومون بمهام صحفية دون المعرفة أو الالتزام بأية معايير مهنية أو أخلاقية. والمشكلة الأكبر ان بعض ما يقدمونه اصبح مصدرا لمعالجات صحفية في بعض الصحف الورقية والبرامج الحوارية في الفضائيات العربية دون تدقيق. 7- اعجبني في معظم التقارير ان التنظيمات المهنية اهتمت بالتعليق علي التقارير الدولية التي تصدر حول الحريات الصحفية في الدول العربية إذ أكدت كلها أن هذه التقارير تشوبها المغالطات وتزييف الحقائق, مفنذة للوقائع الجزئية المنزوعة من سياقها التي أوردتها وموضحة الحقيقة بالنسبة لها. فالواقع أن هناك اشكالية حقيقية حول منهجية هذه التقارير الدولية, ومن يكلفون بالعمل علي إعدادها من الوطنيين في الدول العربية, تطرح اشكالية أخطر حول مدي مصداقيتها وامكانية الاعتماد عليها, وفي رأيي أن التقارير العربية حول حالة الحريات الصحفية في الدول العربية والتي تتطور عاما بعد عام سوف تكتسب احتراما وتقديرا, وتصبح هي الوثيقة التي يمكن الاعتماد عليها, خاصة مع الاتجاه نحو التحرير الكامل للتنظيمات المهنية الصحفية من أي سيطرة حكومية أو ايديولوجية.