المتابع لأخبار الحوادث في الإعلام المصري, علي مدي نصف القرن الماضي, يلحظ ذلك التنامي المخيف في( كم) الحوادث, عقدا بعد عقد, وعاما بعد عام.. كما يلحظ حد جحوظ العينين ذلك التنوع المفزع في كيفالحوادث, وغرابتها عن المجتمع المصري الذي من المعهود فيه عبر التاريخ رسوخ صفات: الطيبة والمودة والموادعة والألفة والتسامح والتراحم والتعاطف والتراضي, وهي صفات نابعة من أعماق الشخصية المصرية المتدينة, كما نبهنا اليها يوما الدكتور زكي نجيب محمود يرحمه الله فهل ضعف الوازع الديني في المصري المعاصر؟ * إذا كانت الإجابة: نعم, فلماذا؟ وأين دور المسجد والكنيسة, في اعداد الآباء بدءا, ليكونوا آباء حقا؟.. وأين دور البيت المصري الأصيل في إرضاع الطفل الحنان والعطف, والأمان والحب, لتأمين صحته النفسية؟.. وأين إحاطة الغلام بسياج المبادئ والقيم والمثل والخلق لتأمين سلامته الروحية؟ وأين دور المدرسة في تربية الصبي مادامت المدرسة تنسب ذاتها الي وزارة التربية قبل التعليم؟.. وأين دور الجامعة في إعداد الفتي, للتفاعل الايجابي الحميد مع المجتمع؟ * وإن كانت الإجابة: لا, فبم نفسر ما يلطمنا به الإعلام صباح مساء, وليل نهار, من جرائم يشيب لها رءوس الغلمان؟ هل نفسره بالبعد الاقتصادي؟ وهل تحل الجنيهات الخمسة مشكلة اقتصادية, حتي تبرر قتل الصديق صديقه؟.. أو هل الاختلاف علي سعر ساندوتش, ينهض سببا اقتصاديا مقنعا, حتي يذبح البائع الزبون؟.. أو هل التنازع علي أجرة تاكسي يشفع للسائق باغتيال الراكب حلا لمشكلته الاقتصادية؟ وإذا كان( الفقر)( بريئا) من مسئوليته وحده عن ارتكاب الجرائم, فهل ينضم اليه الجهل؟ بالمعايير الاجتماعية الحالية التي تعلي من شأن أصحاب الشهادات العلمية, ينتفي احتمال الجهل, وكيف يقرون بالجهل ومرتكب الجريمة يحمل في يمينه السلاح, وبشماله شهادته الجامعية؟ وما دام الأمر كذلك, فهل يبقي غير المرض, ولا سيما المرض النفسي؟.. * في ظلال العجز الكامل لكل من الفقر, والجهل, والمرض, عن أن ينهض أي منها منفردا بتبرير الجريمة, قد يقول قائل: ولماذا لا تنهض كل هذه العلل مجتمعة كبواعث للجريمة؟ فنقول: نعم, يمكن ذلك شريطة أن يجتمع في المجرم كل ما تقدم, ولكن أما وقد تفرقت البواعث تفرق الأفراد, وتنوعت تنوع الحالات, فإن الرابط بينها جميعا من وجهة نظري شيء آخر بخلاف الفقر, والجهل, والمرض.. شيء يحيل توافه الفقر, وسفاسف الجهل, ودواعي المرض الي مجرد ظواهر خارجية لمصيبة أكبر, يصدق عليه المثل القائل: القشة التي قصمت ظهر البعير: نعم.. فبعيرنا المصري الصابر علي مدي نصف القرن الماضي محمل بدءا بما تنوء بحمله الجبال. وهل عرفت الجبال يوما التلوث: هواء وماء, مسكنا ومواصلة بصرا وسمعا؟.. هل جربت الجبال تلوث الأجواء: سياسة وإدارة, تعليما وصحة؟.. تلوث بكل أنواعه, يحياه المصري المعاصر, فيدمر جهازه العصبي حد الانهيار الداخلي, وعندما تأتيه القشة تكون القاضية, فيكون انهياره الخارجي وارتكابه لجرائمه.. وإلا فليقل لي أحد: كيف يكون القتل لسبب تافه تفاهة المشادة الكلامية مثلا؟