كتب : هاني عسل لم يشعر الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالخجل أو بنقص في الكبرياء وهو ينقل إلي الأمريكيين نصيحة شخصية ثمينة وجهها له رجل الأعمال الأمريكي الشهير وارين بافيت أحد أكبر أثرياء العالم بشأن الأزمة الاقتصادية. فهو يعرف جيدا أنه كرئيس انتخبه الأمريكيون فعل ما عليه هو وطاقم الحرب الاقتصادي الذي وراءه, بوضع خطة التحفيز الاقتصادية التاريخية الأكبر من نوعها, وبسن مشروع الإصلاح المالي, ولكنه يدرك أن تشريع القوانين شيء والمعاناة اليومية للمواطنين الأمريكيين من الأوضاع الاقتصادية الصعبة شيء آخر, لأنها تحتاج إلي لغة خطابة أخري بعيدة عن الحديث عن القوانين والتشريعات والمصطلحات الاقتصادية المعقدة. الخبراء الاقتصاديون اعتادوا تجميل الأزمات أمام شعوبهم بالإغراق في الأرقام والإحصائيات والنسب المئوية الغامضة من باب التمويه أو التتويه, ولكن في معظم حالات الركود الاقتصادي, يكون الحديث ذو الطابع الشخصي أو الحياتي مع الناس هو الأفضل والأنسب لإقناعهم بالتعامل مع المعطيات الجديدة وبتوجيههم إلي فعل ما هو مناسب, أو حتي لإقناعهم بالصبر! كلمات وارين بافيت بالتأكيد ستكون أكثر تأثيرا في هذه الحالة علي المواطن العادي من تأثير بيانات وتصريحات ودراسات يرددها المسئولون من هنا وهناك, فهذا الرجل رفع من حجم تبرعاته السنوية إلي المؤسسة التي أنشأها بيل جيتس إلي1.6 مليار دولار خلال العام الحالي, مقارنة ب1.25 مليار دولار تبرع بها خلال عام2009, علما بأن بافيت 79 عاما- كان قد وعد بالتبرع بحوالي99% من ثروته البالغ حجمها47 مليار دولار للأعمال الخيرية. كل ما قاله وارين بافيت لأوباما هو أن الإدارة الديمقراطية بذلت جهدا رائعا في مواجهة الأزمة الاقتصادية الحالية, ولكن بدء ظهور مؤشرات للتعافي من هذه الأزمة والابتعاد عن الركود لا يعني أن الأزمة قد انتهت, بل حذره من استمرار وجود مخاطر عديدة يشعر بها المواطنون في حياتهم اليومية, وهو ما يعني ضمنا ضرورة أن تواصل الإدارة عملها من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة لتقليل معاناة الناس وإخراجهم من هذه الحالة التي مر عليها سنوات حتي الآن. الأرقام تشير بالفعل إلي أن الاقتصاد الأمريكي قطع شوطا طويلا في التغلب علي حالة الركود, وأن عملية التعافي جارية, ولكنها شبه متوقفة, وهذا ما أكده بن بيرنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أمام الكونجرس, وهو ما يعني أن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها الإدارة الأمريكية لحل الأزمة يجب أن تستمر لحين تحسن الموقف بشكل ملحوظ ومطمئن يشعر به الناس. ما يعرفه الأمريكيون بعيدا عن هذا الحديث هو أن لسعات الأزمة الاقتصادية طالت الجميع, الأغنياء والفقراء معا, عن طريق فقدان الوظائف وزيادة عدد العاطلين عن العمل, فهناك دراسة تقول إن5,8 مليون أمريكي علي الأقل فقدوا وظائفهم نتيجة للركود, وأنه في مارس الماضي ظلت نسبة44% من العاطلين بدون عمل فترة تزيد علي6 أشهر! ونتيجة لذلك, ظهرت في المجتمع الأزمة سلوكيات كان الأمريكيون قد تناسوها في عقود الازدهار الطويلة, فبدأنا نسمع عن شبان يضطرون تحت وطأة الأزمة إلي تأخير الزواج أو تأجيل الإنجاب, وبدأنا نسمع عن زيادة معدلات الفقر والبؤس لدي المسنين نتيجة لارتفاع تكاليف العلاج والمعيشة عليهم, وظهرت في الفترة الأخيرة أيضا ظاهرة التئام شمل الأسر لتقليل النفقات, والناجمة عن عودة أبناء إلي كنف آبائهم لكي ينفقوا عليهم( أي لينفق الآباء علي الأبناء من مدخراتهم), خاصة بعد أن فقد الكثير من المواطنين منازلهم في عاصفة الرهن العقاري, وبشكل عام عادت ظاهرة الادخار إلي الظهور نتيجة لعدم الاطمئنان إلي المستقبل, وتراجع في المقابل الإنفاق الاستهلاكي بشكل كبير, وفي هذا الإطار قالت إحدي الدراسات إن71% لم يعودوا يقبلون علي شراء السلع الباهظة أو سلع الرفاهية, بينما استغني57% منهم عن فكرة القيام بإجازات خارجية باهظة التكلفة أو بدأوا يلجأون إلي الإجازات القصيرة الأقل تكلفة. وسجل مؤشر ثقة المستهلكين الذي يعكس مدي تفاؤل المستهلكين بشأن أوضاع الاقتصاد- لهذا الشهر تغيرا طفيفا ليصبح علي52 نقطة مقارنة ب52.9 في يونيو, ولكن هذا الرقم يختلف عن رقم25 نقطة السوداوي الذي تم تسجيله في فبراير2009 مثلا, ومع ذلك فما زال المؤشر عند مستويات قريبة من مؤشرات مرحلة الركود. وتزايد عدد البنوك المنهارة في الولايات المختلفة ليتجاوز الرقم100 للمرة الأولي منذ بدء الأزمة, مما وضع ضغوطا كبيرة علي المستثمرين وأصحاب الأعمال لفشلهم في الحصول علي قروض يستطيعون بها تشغيل عمالة أو توسيع الأعمال, بينما تأثر الأمريكي العادي بهذا الأمر لصعوبة الحصول علي قروض صغيرة لتمويل شراء منزل أو سيارة. ومما زاد من عمق الأزمة ذلك الذي حدث في أوروبا, فالخبراء يرون أن أزمة اليونان وأوروبا ربما لن يكون لها تأثير كبير علي حركة التعافي الأمريكي, باعتبار أن الاقتصاد اليوناني صغير جدا بالنسبة للاقتصاد الأمريكي, ولكنهم يتوقعون أن يكون التأثير الأوضح في قوة الدولار مقارنة باليورو, باعتبار أن قوة الدولار تعني أن صادرات الشركات الأمريكية إلي أوروبا ستكون أغلي سعرا, وبالتالي غير قادرة علي التنافس مع السلع الأرخص, فضلا عن اتجاه الأوروبيين في ظل هذه الأزمة إلي شراء سلع أقل سعرا والابتعاد عن الباهظ والمستورد. الأسوأ من ذلك أنه يتعين علي المواطن الأمريكي أن يترقب ضغوطا ضريبية كبيرة عليه في الفترة المقبلة, باعتبار أنها الوسيلة الوحيدة التي تصلح لتقليل العجز في الموازنة, وهذا ما تضمنته اقتراحات صندوق النقد الدولي بالفعل, وكان من بين هذه الاقتراحات فرض ضرائب علي الطاقة وضريبة علي الاستهلاك الوطني وضرائب علي الأنشطة المالية بصفة عامة. .. أوباما نقل بذكاء نصيحة بافيت إلي الأمريكيين التي تقول إنه بدون تنازلات مؤلمة لن تهدأ العاصفة.